بيع العقول وتأجيرها

في البداية، أعني عندما استقر الناس بالزراعة في المكان، في قرية أو مدينة فيما بعد، ثم في دولة أخيراً، كان الناس يؤجرون عضلاتهم لأصحاب العمل، ويحتفظون بعقولهم. وبمرور الوقت مع الايديولوجيات، صاروا يبيعونها لها. قلة قليلة جداً بقيت مالكة لعقولها وتفكر خارج الصندوق، وهم الذين حملوا لواء الحضارة الإنسانية التي آلت إلينا، ويطلق عليهم لقب الفلاسفة، والمفكرين، والأدباء، والنقاد، والفنانين، والمخترعين، والمكتشفين... وبمرور الوقت وتعقد الحضارة، وبخاصة في هذا العصر، اتسع تأجير العقول واتسع بيعها وشراؤها، ففي فترة الحرب الباردة بين المعسكرين كان اليسار – بوجه عام– مؤجراً عقله للمعسكر السوفيتي، واليمين – بوجه عام– مؤجراً عقله للمعسكر الرأسمالي. وما تزال عقولهم محتلة منهما إلى اليوم بقوة الاستمرار. ومن هنا نشأ التعصب الأعمى والتكفير والتخوين. واتسع كذلك تأجير “الموظفين” في القطاعين العام والخاص، عقولهم لهما لمدة معينة يحددها العقد، ومن هنا نشأت الإدارة والروتين، كما اتسع استقلال العقول بالعدد الكبير من الفلاسفة والمفكرين.. بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ووسائل الاتصال والتواصل. لكن بعضهم أجر عقله أو حتى باعه لنظام سياسي معين كما يتجلى في صحيفة أو كتاب او إذاعة أو قناة... كما ظل الرعاع يبيعون عقولهم بالجملة أي يتنازلون عنها للزعيم الشعبوي. ولعل سقوط ترامب الزعيم الشعبوي الأكبر والأكذب في العالم، يمهد لسقوط بقية الزعماء الشعبويين والشعبوية نفسها. وللأسف باع علناً كثيرٌ من رجال الدين وبعض المفكرين والفلاسفة والاساتذة والمعلمين والاطباء والمحامين والمهندسين المسلمين، العرب وغير العرب عقولهم لطالبان والقاعدة وداعش، وبالتقية بعد الهزائم التي لحقت بها. مقابل ذلك ظلت قلة من مالكي عقولهم المفتوحة للنور وتجدد الهواء، تدل الناس على الطريق الصحيح. وبعقولهم الحرة أو المستقلة يعانون من القلق الفكري: السياسي، أو الاجتماعي، أو الأدبي، أو الفني... أو التكفير أو التخوين. هذا إذا لم يتم اغتيالهم. وللأسف وسوء الخلف والتربية والعلف، صار كثير من أصحاب العقول اليوم يبيعون عقولهم (بالفلوس) كما في إعداد اطروحات لنيل الماجستير أو الدكتوراه لمشترٍ عاجز عن إعدادها واستيعابها. وبهذه المناسبة أدعو إلى انهاء قاعدة أو مبدأ الاعتراف بالجامعات والاعتراف بدلاً من ذلك بالخريج إذا نجح في فحص محكم في تخصصه تقوم به ثلة محترمة ووازنة علمياً في التخصص من وراء زجاج يرونه ولا يراهم. كما صارت العقول تسرق في غفلة من أصحابها، بالغش أو بالانتحال. لقد وصلت الوقاحة بأحدهم تحديه لي بنشر بعض مقالاتي في صحف في الخليج إن كان بإمكاني معرفة ذلك. كما وصلت سرقة العقول حداً بانتحال مادة في علم الاجتماع لعالم لبناني مشهور فيه، اكتشف سارقها وأنذره إن لم يشر إلى المصدر في الطبعة القادمة من كتابه ولكنه لم يفعل، كما أفاد الاستاذ اللبناني. ومع هذا صار هذا المنتحل وزيراً في بلده، وكأن الجهاز الأمني المعني الذي يعرف كل شيء عن كل واحد/ة لا يعرف ذلك ليمنع تعيين منتحل لا يفكر بعقله بل بعقل مسروق. وتنتشر اليوم سرقة الأفكار والأقوال في وسائط التواصل الاجتماعي، لاعتقاد اللصوص أنه يصعب العثور عليهم متلبسين، فيعتقدون انهم مفكرون مع أن كثيراً منهم شبه أمي. تأجير العقول يعني التنازل عنها طيلة فترة العقد. أما بيعها يعني التنازل عنها للغير طيلة العمر، وما أصعب البيع على المحتاج إلى ذلك كما يحدث لكثير من العراقيين والسوريين... بعد الكوارث التي حلت في بلدانهم. كما قد يجبر الفقر أو الجوع عليه. لعل من المزعجات للفكر ظهور ما أسميه بالعقل المتصدّق ( بكسر الدال وتشديدها) الذي يقوم صاحبه بالتصدّق أو بالاحسان إلى مؤلف/ة أو إلى كاتب/ة لا يستحقان، بكتابة مقدمة رائعة له/ا، او بمراجعة طنانه لمؤلفه/ا لأنه صديق، أو قريب، أو فتاة، أو مقابل الفلوس (فتسقط الصدقة). وهكذا نحن نتفرج على ثلاثة أنواع من العقول: العقول المؤجرة أو الجاهزة للإيجار، والعقول المباعة أو الجاهزة للبيع، والبيوع الحرة أو المستقلة المستعصية على الإيجار والبيع. وأخيراً ولمنع شراء العقول أو احتلالها تقوم الدول الديمقراطية العلمانية بمنع تعليم الأطفال دينا معينا أو ايديولوجية سياسية معينة في المدارس، ولكنها تعلمهم بدلاً من ذلك الفلسفة والمنطق ونظريات المعرفة والتفكير الناقد، وثقافة عامة عن الأديان والايديولوجيات، تاركة لهم حرية الاختيار عندما ينضجون، فحرر عقلك من الاحتلال وتمتع بالحرية والاستقلال. ·ملاحظة: هذا مقال أولي في موضوع جديد بحاجة إلى المزيد من التفكير والبحث كماً ونوعاً.اضافة اعلان