بين التنوير والتنفير..!

علاء الدين أبو زينة لعل من أهم متعلقات الخطاب التغييري، التنويري أو الدعوي، أن يكون جذابًا. إنك لن تكسب إذا بدأت خطابك لجمهور بما يتصادم مباشرة مع ما يُعزّون ويؤثرون. سوف يغلقون آذانهم عن سماع ما بعد سطرك الأول فقط. وإذا تأملنا نجاح دعوة الإسلام، كفكرة مغايرة وجديدة تماماً في الجزيرة العربية الوثنية ذات السلطات الراسخة، فإنها تتلخص في الآية مهمة الدلالة: «ولو كنتَ فظّاً غليط القلب لانفضوا من حولك». لو كان خطاب النبي، صلى الله عليه وسلم، حادًا لا يروق للسامعين من مطلعه، لما اتبعه أحد. كان في النهاية شخصًا واحدًا لا يمتلك أي أدوات لفرض الأفكار بالقوة. وكانت أداته الوحيدة هي الجاذبية الشخصية ومنطق وجاذبية الخطاب الجديد. ويتناقض هذا التصور لما كان عليه عرض الدين، كفكرة جديدة، مع طريقة من يُسمون «رجال الدين» الذين ينفّرون حتى المؤمنين بطريقة عرضهم القائمة على التخويف وتبرير العنف واغتيال فكرة التصالح والارتياح التي يسعى إليه الناس لدى محاكمة الفكر والمعتقد. ثمة أيضًا طريقة إدوارد سعيد، الذي خاطب جمهورًا مختلفًا بطرح مغاير. لقد عرف أنك لا يمكن أن تبدأ خطابك لجمهور غربي بشيء مثل: «أنا أنكر الهولوكوست جملة وتفصيلاً. إنه شيء لم يحدث». كان ذلك سيخلي قاعته في الدقيقة الأولى. لذلك بدأ بشيء من قبيل: إنني أستنكر الهولوكوست ومعاناة اليهود على يد النازية... و(لكن) لا ينبغي أن يكون التعويض عن معاناتهم أن يجعلوا شعباً آخر، الشعب الفلسطيني، يعاني ويصبح ضحية للضحية. وعندما تحدث عن أصول الإرهاب، قال: «بوصفي نيويوركيًا أقول إنها حادثة مروعة تبعث على الصدمة، خصوصًا من حيث حجمها. وقد تم تصميمها لتصدم وتروع وتحدث قدرًا هائلاً من الشلل وأشياء مريعة أخرى لا يمكن التماس العذر لها». وهكذا بدأ بما يحب أن يسمعه الجمهور، وحرص على تأكيد هويته المعنيّة كنيويوركي أميركي ليتيح لنفسه التحدث من موقع الشخص الداخلي. ثم ذهب من هذه المقدمات إلى قول: «أعتقد أن الحادثة جاءت في أعقاب جدل طويل حول تورط الولايات المتحدة في الخارج، والذي امتد عبر القرن الماضي برمته وشمل التدخل في شؤون العالم الاسلامي والدول المنتجة للبترول والعالم العربي والشرق الاوسط، وكل تلك المناطق التي يجري النظر إليها بوصفها أساسية لصيانة المصالح والأمن الأميركيين». وانتقل إلى وصف مشاعر العرب والمسلمين تجاه أميركا بسبب أدوارها، ومنها دعم الحكام المستبدين المحليين، قبل أن يذكّر بدور أميركا التأسيسي في تصنيع تنظيم القاعدة لمحاربة السوفيات في أفغانستان... وهكذا. لقد استرشد خطابه بما يمكن وصفه بمحاولة «التغيير من الداخل»: أن تضع نفسك مع الناس الذين تريد تنويرهم وتوسيع أفكارهم ليسمعوك كواحد منهم. والمقابل هو «التغيير من الخارج»، القائم بطبيعته على فكرة الانفصال ومصاحباته من الشك والاغتراب. ولذلك غالبًا ما يتم فرض التغيير من الخارج بالقوة والتناقض الصريح. تحيل الفكرة إلى بعض التنويريين لدينا الذين يختارون الصدام مباشرة مع فهم الجمهور الذي ينبغي أن يُسمعوه فكرتهم. وهم ينطلقون من منطلق ضرورة الوفاء للمبادئ التي يبشرون بها وتجسيدها، حتى لو كان ذلك يعني استعداء الآخر سلفًا. وأتصور أن هذا الأسلوب خاسر من البداية. سوف يستمع إليهم ويثني على أقوالهم المماثلون في الفكر، الذين لا يحتاجون إلى أحد لينورهم بما يعرفونه. وسوف يتصور التنويري، الذي لا شك في صدق نواياه، أنه فعل شيئًا بمجرد سماع هتاف هؤلاء النظراء، بينما ينحرف عمله عن وجهته حينَ يُعزل ولا يُسمع وُيحارب. إذا كان المفكر التنويري يقيس عمله بحجم الجمهور الذي يتأثر به إيجابيًا ويحب الاستماع إليه ويتغير به، فإنه معني بنبذ الطرق التي تميزه كخروف أسود يبتعد عنه الباقون. ينبغي أن يراجع طريقته إذا ضيقت جمهوره. وإلا وقع في فخ الاستعراض بالتفرد بمجرد الاختلاف ومديح النظراء، على طريقة الزعيم الذي تهتف له حاشيته فيظن أنه محبوب الجماهير. الفكر بناء منطقي. وتقام أطروحاته على مقدمات تحاول أن تقنع المتلقي بتعقبها حتى النتائج. ولا براعة في البدء بمقدمات يحكم المتلقي بعدم منطقيتها، وفق منظوره، بحيث لا يتابع تسلسل الخطاب. وسيكون اتباع منهج ذكي يتأكد من جاذبية المقدمات شرطًا لإيصال الأفكار الجديدة بتسلسل منطقي. وإلا، فإن ثمة خللاً في المنهجية، وليس بالضرورة في المستمعين. المقال السابق للكاتب للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان