بين الخطوط الحمر!

كشف التشبيك بين 450 صحافيا استقصائيا عربيا وغربيا في الأردن عمق أزمة الأخبار الملفقة، خصوصا بفعل واقع التواصل الاجتماعي؛ إذ باتت أكثر وقعا على المجتمعات من الإعلام التقليدي الذي يتأرجح بين خطوط حمراء ورواية ثالثة صوتها خافت.اضافة اعلان
 نحن في عصر ما بعد الحقيقة ضحايا الإعلام الرديء والأخبار الملفقة. على أن الفارق بين العالمين يكمن في أن الغرب يشهد مقاومة أشد لصناعة التلفيق، مع أن أصداء المقاومة لا تصل إلينا إلا نادرا. أما هنا، فالقليل منّا – مواطنون ومعشر الصحفيين-  مستعدّون لمواجهة هذه الآفة. فالكلفة عالية جدّا والمحاولة تستنزف وقتا وجهدا لا تلمس آثاره كثيرا.
 وثمّة إجماع على أن غالبية الدول العربية سجّلت تفوقا استثنائيا على الغرب في ابتكار بدعة الأخبار الملفقة، حتى قبل أن تداهم الشبكة العنكبوتية حياتنا.
 نحن لسنا فقط في صدارة الأخبار الملفقة، بل وفي صناعة سياسات ملفقة، قوانين  تستبطن الاستبداد، تقاليد مشوهة، تفسيرات دينية تحضّ على العنف، إقصاء الآخر واضطهاد المرأة، وفي وضع موازنات ملفّقة ووظائف شكلية.
 في هذه المنطقة التي تمور باللامعقول، نستطيع تبيان "الفبركة" حين نراها، ذلك أنها متداخلة الى حد كبير مع حمضنا النووي (دي إن إي) وأساسات مجتمعاتنا.
 وعندما نعلن أن مواقع "التناطح" الاجتماعي تعمل ضد مجتمعاتنا، فنحن لا نجانب الحقيقة. قنوات اتصالنا وشبكات الاتصالات تتعرض للتهكير والتنصت غير القانوني على يد السلطات السياسية، التي توظّفها ضد المواطنين. وهكذا تغدو الحقيقة صوتا خافتا غير ملهم في عالم سريع التغير، حيث يعلو صوت التطرف والإلغاء.
يوما بعد يوم، تتزايد صعوبة اعتماد "فلاتر" لضمان النزاهة والإنصاف في ملايين لمع الأخبار وقصاصاتها.
 قبل عدّة سنوات، اثبت مسح أجرته جامعة أكسفورد البريطانية أن معظم ما يتم تداوله في الفضاء الالكتروني يحمل عادة مضامين تافهة ليست ذات صلة. ومع ذلك، يتهافت الناس على هذه المضامين التافهة، خصوصا إذا توافقت مع منظورهم الضيق حيال العالم كما يرونه أو يرغبون في رؤيته.
 في قضية القرصنة الروسية لحواسيب أميركا مثلا، نجد أنفسنا جميعا في ورطة حقيقية في حقبة سياسات ما بعد الحقيقة، عندما يصدّق الرئيس الأميركي كلمة ضابط استخبارات روسي متقاعد على حساب وكالات استخبارات بلاده مليارية التمويل.
 الجدالات الدائرة حول الأخبار الملفقة قوّضت الثقة بالإعلام في الولايات المتحدة وثلاث دول أخرى، حسبما كشف مسح أجرته شركة بيانات كنتار على عينة من 8000 شخص في أميركا، البرازيل، بريطانيا وفرنسا. والأسوأ أن انعكاسات مواقع التواصل الاجتماعي وخبراء الفضاء الرقمي تكون أكثر وقعا على المجتمعات من الإعلام التقليدي المطبوع والبصري.
 لكن هل يعني ذلك أن يستسلم الصحفيون المحترفون بمن فيهم العرب لهذه الحال؟
 قطعا لا. لكن يجب عدم التقليل من تأثير العقبات التي يضعها المسؤولون أمام الصحفيين؛ خصوصا حفنة من الجسورين الملتزمين بمبادئ الإعلام وقواعده. فهولاء يواجهون صعوبة الحصول على أخبار رسمية دون دفع ثمن سياسي ومهني.
 في جلسات ملتقى الصحفيين الاستقصائيين العاشر الذي عقد في الأردن مطلع الأسبوع ظهرت صعوبة مجابهة الأخبار الملفقة وسيل الخدع وتشويه الحقائق، خصوصا تلك التي تنفثها "كتائب الكترونية" رسمية أو تابعة لمراكز قوى ومال.
 تحتب عنوان: "صحافة الاستقصاء في مواجهة الأخبار الملفقة"، تبادل المشاركون الخبرات حول البحث عن حقائق أخفيت خلف ركام من الفوضى والتضليل.
جل الاستقصائيين شكوا روتين العمل تحت إشراف رؤساء تحرير بات بعضهم أبواقا في إطار مقايضة الاستمرارية مقابل طمس الحقائق وتلفيقها. والخبر "الأمني" طغى على سائر الأخبار على وقع ويلات الحروب والأزمات السياسية القديمة/ المتجددة في الإقليم. كما ناقشوا اقتصاديات مؤسساتهم الهشة والعمل في ظل الرقابة الرسمية والخاصة وسط تهديدات بغلق أي مؤسسة تخالف الرواية الرسمية أو تكشف حقائق غير مرغوبة عن الفساد.
في الجزائر مثلا أغلقت أزيد من 60 صحيفة خلال العامين الماضيين بسبب وضعها المالي.
في ليبيا يعاني إعلاميون من تحديات الاصطفاف والشقاق السياسي بين حكومتين متصارعتين في شرق البلاد وغربها. لكن خوفهم بات أكثر من الميليشيات المسلحة خصوصا إذا طرقوا ملفّات تخصّها كالتهريب والاتجار بالبشر.
في السودان يقف المجتمع المحافظ وتابوهاته بمواجهة بذور صحافة الاستقصاء، خصوصا إذا طرقت ظلما ناجما عن العادات والتقاليد وظلم الأهل. البنية السياسية والقانونية مقيّدة للحريات وطاردة في بلد يقع في أسفل مؤشرات الحريات الإعلامية والشفافية حول العالم. ويصعب كشف "الاحتكارات الكبرى" على الاقتصاد مثلا. وظل تناول الملف خطّا أحمر مع تنامي مصادرة الصحف قبل الطباعة في مخالفة للقانون.
في المغرب، تراجع الوضع الإعلامي بعد كوّة صغيرة من الانفتاح الناتج عمّا سمي بالربيع. آخرون بدّلوا خندقهم بصورة جنونية. ويمارس آخرون "رقابة ذاتية" أو يلاحقون قضائيا، تحت منظومة قوانين متداخلة ومتناقضة. يحكم في المغرب مساران؛ أحدهما فوقي شبه مغلق عنوانه المؤسسة الملكية، التي تستمد صلاحياتها من الدستور. وهي تحولت الى "المخزن" أو رديف الدولة العميقة في دول أخرى.  وهناك مسار مفتوح يشمل أحزابا سياسية ومنظمات مجتمع مدني ومؤسسات إعلامية، تشكّل واجهة "للحقل الأول" لكنها بدون تأثير. الصحافة المدعومة من الدولة مثلا تأخذ نصيب الأسد من الإعلانات الرسمية. أما غالبية الصحف الخاصة فهي نتاج "زواج متعة" بين المال والسياسة، إذ تحول صحفيون داخلها إلى تجار لمن يدفع معاشاتهم. وبينهما صحافة مستقلة صوتها خافت تحولت إلى المطلوب رقم أول لدى السلطة لناحية الاعتقالات وتكميم الأفواه. وفي جوار ذلك مواقع الكترونية تابعة لمؤسسات سيادية مهمتها مهاجمة المستقلين من رجال اعمال وصحافيين لإحباطهم.
في سورية الأمر أكثر تعقيدا – كما هو الحال في اليمن، الذي شارك منه 60 صحفيا في ملتقى أريج. وقد وقع خبر مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح يوم الاثنين كالصاعقة على القادمين من اليمن. هاجس الأمن أهم من التحدي السياسي في دول الاضطراب. وفوق خطر الموت، هناك تحدّي التنقل بجواز سفر سوري أو يمني.
أما زملاؤنا في غزّة، فمجرد الخروج من السجن الكبير ظلّ حلما للسنة السادسة.
الحريات الإعلامية تتراجع حتى في تونس، مهد الثورات العربية. الإملاءات في ازدياد. الاقتراب ممنوع من تحالف المال الفاسد بالإرهاب.
في العراق أصبح الاستقصاء "موضة"، فيما يستخدم مدّعو الاستقصاء أدوات لاغتيال سمعة الطرف الآخر.
في فلسطين بات رئيس الوزراء خطا أحمر في عهد ما يسمىّ بالمصالحة الوطنية.
 حتى قضايا بعيدة عن تعقيدات السياسة؛ مثل الصحة، التربية والتعليم وشؤون المستهلك أضحت مثيرة للمشاكل تحت وطأة عصا السلطة وغوغائية شارع مستقطب. خذ مثلا إحجام رئيس تحرير سوداني عن نشر أسماء متسببين في تلوث بيئة ناجم عن بناء عشرات مزارع الدجاج بين الأحياء السكنية.
 كذلك رفضت صحيفة عربية لندنية يملكها مسؤولون سعوديون بارزون نشر تحقيق حول تعمق الكارثة الإنسانية في اليمن بفعل الحرب، حتى لا ينظر إليها على أنها تسعى لإحراج التحالف الدولي ضد الحوثيين هناك.
 الحال ليست أفضل كثيرا في مصر. إذ تحول هذا البلد إلى أكبر سجن للصحفيين خلال السنوات الأربع الماضية. هناك، يشارك صحفيون في توقيع "استمارات دعم" لحث الرئيس على الترشح لولاية ثانية.   في البحرين، السعودية، العراق وبلدان أخرى توظف القوانين المعتمدة أصلا لمواجهة الجرائم الرقمية لتكميم أفواه الصحفيين.
ومع أن حال الإعلام في كل دولة كان بائسا في معظم الأحيان، أحالت أزمة قطر- السعودية الإعلام العربي الإقليمي إلى ساحات معارك. فلن يدعّي أحد بعد الآن أن قنوات عابرة للحدود تمثّل أي شيء أكثر من "بروباغاندا" رسمية.
على خلفية هذه الصورة القاتمة، تعرّف الصحفيون العرب إلى عشرات الخبراء الأجانب في حقل الاستقصاء والإعلام الرقمي لتبادل الأفكار والأدوات في التصدي لسيف الرقابة وتشويه الحقائق.
استفادوا كثيرا. ارتفعت معنوياتهم قليلا. فهم ليسوا وحيدين في هذا المركب المتأرجح في زمن الخطوط الأحمر وما بينهما.