بين الراديو والتلفزيون

ليست هذه مفاضلة بين أهم أداتي اتصال بسطتا هيمنتهما المطلقة على الأثير في العصر الحديث، فهما بالأساس ليستا متعارضتين، ولا دور إحداهما يحل مكان الأخرى، او يلغيه في اي وقت من الاوقات، الامر الذي لا يصح معه طرح سؤال الافضلية هذا على المتلقين، الذين عرفوا كيف يتدبرون انفسهم مع الراديو، ولم يهجروه بتاتاً، حينما بدا التلفزيون وكأنه الوسيلة الاشد استقطاباً، والاكثر استبداداً بأوقات المستمعين والمشاهدين على حد سواء.اضافة اعلان
ومع ذلك هناك ميول دفينة وغير معلنة بالضرورة، لدى البعض منا تجاه الراديو، الخل الوفي بكل المعايير، لا سيما لدى الجيل الذي شب وترعرع في حضرة ذلك الجهاز، الذي كان يتربع في صدر البيت مهاباً، قبل ان يصبح محمولاً، يرافقنا في غرفة النوم وفي الخلاء، آناء الليل وفي اطراف النهار، واينما ذهب الفتى المغرم بالاستماع الى نشرة اخبار او اغنية، او برنامج فكاهي، وغير ذلك مما كان يلون حياة الناس في زمن البساطة والاكتفاء.
على المستوى الشخصي، انا من بين الذين عقدوا صداقة دائمة مع الراديو، ولم يتخلوا عنه ابداً، بل ظلوا يشعرون بالحنين اليه، حتى عندما صار التلفزيون في زمن البث الفضائي الوسيلة الاعلامية الاكثر انتشاراً، والاوسع تأثيراً على الجمهور، ليس لأن الراديو اشد منافسة، او الاسرع في نقل الحدث، وانما لأن سحره القديم بقي مقيماً في النفس، صديقاً حميماً، يعرف كيف يتسلل الى الروح بيسر واناقة، ولا يخذل صاحبه على الطريق، ولا يستأثر بكل الوقت وكل الحواس.
مناسبة هذا الحديث، الذي يشبه اجتراراً للذكريات على غير هدى، هو هذا الطغيان الجارح للقلب، المؤلم للمشاعر الانسانية، المتدفق عبر الشاشة الملونة في الآونة الاخيرة، في صور مجازر وحشية لا تحتمل، ومشاهد قتل ودمار ومهجرين، وغير ذلك  مما يتعفف الراديو الوديع عن نقله، وان كان يمر عليه مرور الكرام، ويترك لك ايها الممتلئ حزناً مشوباً بالغضب ان تأخذ علماً بالأمر دون تزيّد، ووفق ما تستطيع الذاكرة السمعية استيعابه على اي حال.
ولا اعتقد ان الهروب من امام شاشة التلفزيون مجرد حالة فردية منعزلة عن محيطها الاجتماعي، او انها ردة الى الوراء، اخذت تنتشر جراء هذا الفيض الهائل من اشرطة اخبارية مصورة، وهي نشرات مطولة لا تكف عن التذكير بما يحدث في الجوار من بشاعات، والضغط على الاعصاب صبحاً ومساء، فبحسب ما اعلم هناك اليوم انفضاض عن مشاهدة التلفزيون من جانب كثير من الناس، خصوصاً من جانب المثقفين الاكثر حساسية ورهافة ويقظة ضمير، ازاء فظائع معارك الحرب على الارهاب.
واحسب ان المفاضلة بين الراديو والتلفزيون ليست مطروحة على جدول اهتمامات جمهور فضائيات المنوعات والرياضة والقنوات الدينية، وانما هي حصراً بين متابعي القنوات الاخبارية، بين هؤلاء الذين انهكهم سفك الدماء عن بعد، واعياهم مراقبة الانجراف نحو الموت بالجملة، خاصة للأطفال والنساء، الامر الذي لم يتح لهم سوى خيار الهروب الى عالم الراديو، والى وسائل الاعلام الحديثة الاقل خشونة، بما في ذلك مواقع التواصل الالكترونية الاكثر ترفقاً بمن يهمه الامر.
ومن حسن الحظ، ان العاملين في محطات الراديو هذه الايام، ومن بينهم القائمون على محطات الـfm  قد تمكنوا من الدخول بكفاءة واقتدار على ميدان المنافسة مع قنوات التلفزيون، وحسناً انهم استطاعوا استقطاب جمهور واسع من المستمعين، لا سيما جيل الشباب الذي فتح عيونه على الدنيا في زمن الشاشة الصغيرة، الامر الذي عزز قاعدة متلقين، كان البعض يعتقد انها الى زوال، او انها اضمحلت الى ابعد الحدود، مع ازدياد سطوة الوسيلة الاكثر دكتاتورية بين مختلف وسائل الاتصال.
ورغم الانحياز، قلباً ووجداناً، الى عالم الصحافة الورقية، حيث ميدان العمل والمتعة والاختصاص، الا ان ذلك لم يحجب العشق القديم للراديو، الذي كان اول اداة معرفية عامة للفتى الصغير، الهاجس بحب الاستطلاع والرغبة في التعرف على كل شيء جديد، وليس لديه وسيلة لإشباع فضوله الشديد الى المعرفة في حينه، غير صديقه المدهش العتيق، ذلك الراديو الصغير، الذي كان بمثابة شرفة عالية تطل على عوالم ابعد مما تقع عليه عين الفتى الصغير.