بين المقارنات العمودية والمقارنات الأفقية

المقارنات الدولية نوعان: مقارنات عمودية بين حاضر الدولة أو الشعب أو الأمة وماضيها، أو مقارنات أفقية بين حاضرها وحاضر غيرها من دول وشعوب العالم وأممه.اضافة اعلان
المقارنة العمودية جيدة لمن يريد أن يعرف كيف كان وكيف أصبح الآن. والمقارنة الأفقية جيدة لمن يريد أن يعرف أين هو الآن، وماذا يجب عليه أن يعمل أو يكون ليحتل منزلة لائقة به في هذا العصر.
المقارنة العمودية تجعل الماضي هو المعيار أو المقياس أو المرجع، للاعتبار والتعلّم وليس للتكرار، لأن ظروف الماضي تختلف –جذرياً- عن ظروف الحاضر؛ فلا يعيد التاريخ نفسه، وإن ظل بعض الكتاب يدّعي خلاف ذلك.
أما اليوم، وبعد سيطرة وسائط النقل والاتصال والتواصل والعولمة، فقد أخذت المقارنة الأفقية تحل محل المقارنة العمودية. وصارت معايير الحرية والديمقراطية والقانون الدولي الإنساني والمواطنة والمعرفة (العلم والتكنولوجيا) والاستقرار والعيش والكريم، هي المرجعية أو المقياس. صار الفرد وصار المجتمع وصارت الدولة، يعرفون موقعهم أو منزلتهم في هذا العالم من المقارنات الدولية الأفقية. صار الفرد يطلب هذه المرجعية في بلده، أو يهاجر إليها ليتمتع بها.
وعليه، أعجب أشد العجب من مقارنة د. ستيفن م. والت لفظائع تنظيم "داعش" اليوم بفظائع الماضي البعيد أو القريب في أوروبا وأميركا وروسيا والصين... وعدم مقارنتها بالتحولات السياسية السليمة نحو الحرية والديمقراطية في شرق أوروبا وآسيا وأميركا الوسطى والجنوبية. إن في مقارنة فظائع "داعش" وأمثاله اليوم بفظائع الأمس، وحتى بفظائع غيره اليوم؛ كفظائع الخمير الحمر أو إسرائيل... تبريراً لهذه الفظائع، وإيماناً بأن البشر لم يتغيروا أو يتحضروا.
عندما قارنتُ (في "الغد"، بتاريخ 17/8/2015) سلوك الإخوان المسلمين العنيف في مصر عقب الإطاحة بهم بعد سنة من الوصول للحكم ولو ديمقراطياً، بسلوك الشيوعيين السلمي عقب خسارتهم له بعد أكثر من سبعين سنة من امتلاكه، كنت أندد بالعنف الذي صار العدو الأول للعالم اليوم. لكن لو قارنت سلوك الجماعة اليوم بسلوكها وسلوك غيرها بالأمس، لما اختلف الأمر؛ فقد استخدم الإخوان المسلمون في البداية الاغتيالات، وكذلك فعل الشيوعيون. وإذا مضينا في المقارنة عمودياً، نجد أن العنف الشيوعي -والستاليني بوجه خاص- لا يختلف في نهاية التحليل عن العنف الأموي في كربلاء، أو العنف العباسي في إبادة الأمويين، وهكذا. أما لو قارنا سلوك كل منهما بالمبادئ والقيم التي يرفع لكان لنا قول آخر، أو لجاز لهما كل شيء لأن كلاً منهما يجد في مبادئه وقيمه ما يبرر هذا السلوك أو ذاك أو العكس.
لعلّ نظرية الباحث المرموق ستيفن م. والت في المقارنة انعكاس للنظرية الأميركية السياسية العامة التي ترى أن النجاح هو المعيار، أي إنه إذا نجح "داعش" في البقاء وعلى الرغم من كل الفظائع التي ارتكبها وما يزال، فإن على أميركا الاعتراف بالتنظيم والتعامل معه، مثلما فعلت مع إيران، حتى وإن أدى ذلك إلى تفتيت العراق الذي بدأه الأميركيون، وتفتيت سورية، وحتى زوالهما لأنه يخدم إسرائيل، بدلاً من الإصرار على تقديم المجرمين الأميركيين والداعشيين إلى محكمة جرائم الحرب الدولية.
إن الجرائم بحق الإنسانية مسؤولية لا تسقط بالتقادم ولا باعتراف أميركا بأصحابها، ولكن الفلسفة الانتهازية أو العملية (Pragmatism) الأميركية مستعدة لقبول العكس.
وختاماً نقول: يبدو أن الشعوب أو الأمم أو الدول لا تتعلم من تجارب غيرها المُرّة، فتكررها كما يفعل السُنّة والشيعة الآن. كما لا تتعلم -كما يبدو- من التحولات السلمية نحو الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان... وكأنه عليها أن تدفع الثمن لتتعلم.