تأخّرتم كثيرا أيها العباقرة!

من الواضح، تماماً، أنّ الإدارة الأميركية التي تحمّست لإكمال إيران "الحلقة المفقودة" في الحرب البرية على تنظيم "داعش"، فتركت المجال كاملاً للجنرال الإيراني قاسم سليماني، بدأت تشعر الآن بأنّ القرار ليس في يدها، وأنّ القصف الجوي يخدم إيران حصرياً، التي تتمدد وتتوسّع في المنطقة، بحيث أصبحت الشعوب بين خيارين لا ثالث لهما: إما تمدد داعش، أو تمدد طهران!اضافة اعلان
الطريف في الأمر أنّنا نتحدث عن ضرورة فك الاشتباك اليوم بين السُنّة، الذين أصبحوا حاضنة اجتماعية اضطرارية-مكرهة لداعش، في كل من سورية والعراق، بينما لا نتحدث عن الطرف الآخر، وهو أنّ المجتمع الشيعي العربي أصبح أيضاً حاضنة اجتماعية مكرهة ومضطرة لصالح إيران، تحت وطأة الصراع الهويّاتي الوجودي، أو "الحرب بالوكالة"، التي يدفع ثمنها السوريون والعراقيون، سُنّة وشيعة وأكراداً وغيرهم، على السواء.
منذ البداية، كانت هناك تناقضات وفجوات واضحة وعميقة في استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما ضد "داعش". ولم تكن القضية بحاجة لذكاء لإدراك أنّ هناك ثلاثة أخطار كبيرة ناجمة عن ذلك: الأول، التحول في طبيعة الصراع نحو الطائفي. والثاني، تفكك التحالف الدولي والإقليمي نتيجة التفاوت في قراءة المصالح. والثالث، أنّ الطرف المستفيد سيكون هو المحور الإيراني-السوري، والخاسر هو المجتمع السُنّي العريض الواسع الممتد بين سورية والعراق.
ذلك، بالنتيجة، يعني أنّ "الحرب على الإرهاب" ستؤدي إلى تعميق وتجذير الأزمة الإقليمية وتوسيع نطاقها ومداها، لا حلّها.
بالأمس، خرج الجنرال الأميركي المعروف، ديفيد بترايوس -صاحب استراتيجية "التدفق العسكري" في العراق (2007-2008)، والذي نظّر للصحوات ونجح في تحجيم "القاعدة" حينها وإضعافها إلى أقصى مدى، عبر قلب الحاضنة السُنّية عليها- ليتحدث عن أنّ الخطر الأكبر الذي يهدد التوازنات الإقليمية والاستقرار السياسي هي المليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق وسورية.
على المنوال نفسه يغزل الكاتب الأميركي المعروف توماس فريدمان، الذي تساءل عن جدوى الحرب الراهنة طالما أنّها تصب في خدمة إيران، كما خدمت أميركا إيران خلال الأعوام الماضية بتخليصها من أشدّ خصومها وأعدائها؛ حركة طالبان في أفغانستان، ثم نظام صدام حسين، والآن تنظيم "داعش".
الأمور تسير الآن نحو الأسوأ. حتى تكريت التي لا تعدو أن تكون بلدة صغيرة، وقد بدأت أصوات الاحتفالات والطبول تقرع بالانتصار على "داعش" فيها، لم تكن "لقمة سائغة" كما كان التوقع؛ إذ توقفت قوات "الحشد الشعبي"، ودبت الخلافات بينها وبين الجيش، وبدأت تتلقى الضربات؛ وتحول السكان السُنّة إلى قتال هذه القوات، دفاعاً عن أنفسهم بعد الجرائم المروعة التي ارتكبتها، فكيف ستكون الحال في معركة الموصل مثلاً؟!
المرجعية الشيعية المعروف، علي السيستاني، طالب المليشيات الشيعية بتجنب إظهار الخطاب الطائفي، ورفع علم العراق بدلاً من الرموز الطائفية، لكن من دون فائدة. والقناعة السُنّية اليوم أنّها حرب طائفية، فيما سينتظر الأميركيون والعرب، ربما، حتى تخرج الأمور تماماً عن السيطرة، ليدركوا أنّ التخبط الاستراتيجي الحالي سينقل الصراع إلى مرحلة أكثر خطورة، بفوضى أعمّ!
هل فات القطار على الحل السياسي وأصبح، بالفعل، وهماً، وعلينا أن ننتظر نتائج المفخخات والطائرات والمدافع ومآسي كارثية، أم أنّ استيقاظ العرب من سباتهم وتخبطهم لإعادة بناء التوازن الإقليمي سيعيد ترتيب الحسابات؟!
الأمور تسير باتجاه السيناريو الأول. وما يساعد عليه هو الغرور الإيراني المسكون بوهم استعادة الأمجاد الإمبراطورية وحسم المعركة عسكرياً، مع أن ذلك غير ممكن، وتكريت نموذج صارخ على ذلك. إذ طالما لا يجد السُنّة جواباً عن سؤال المليون: "ما هو اليوم التالي لداعش؟!"، فسيأخذ الصراع الطائفي أبعاداً أكبر وأخطر، ولن نجد أنّنا أمام نهايات واضحة للحرب الراهنة، إلاّ إذا تمت إبادة المجتمع السُنّي بالكامل في هذه المنطقة!