تبدل معايير النزاهة والاستقامة

في الأردن، يعتقد كثيرون أن الممارسات السيئة تأتي من الآخرين فقط، بينما ينظرون إلى أنفسهم على أنهم كاملون وأطهار بلا عيوب.
الجميع ينتقدون عدم نظافة الشوارع، ويكرهون النفاق، ويرفضون الغش، ويحبون الإخلاص بالعمل، ويتحدثون بلا توقف عن ضرورة الاحتكام للأخلاق والاستقامة في جميع معاملاتنا.اضافة اعلان
لكن السؤال القائم؛ إذا كان الجميع يتحدث بمثل هذه الأخلاقيات العالية، إذن فمن أين يأتينا كل هذا الخراب الذي نعيشه اليوم على الصعيد المجتمعي! هل ما نشهده من تدهور في الأخلاق وتراجع بالصدق والاستقامة والنبل هو محض غزو فضائي ليس لنا يد فيه!!
اليوم، من الصعب أن تذهب بمركبتك إلى أي فني من دون أن يكون في ذهنك إمكانية تعرضك لـ"النصب" والاستغفال، ولا يمكن أن تشتري كيلوغراما واحدا من زيت الزيتون إلا وتضطر لعرضه على العشرات لعلك تقترب من التأكد بأنه بلا غش. ولا تدير شركة أو مصلحة صغيرة أو كبيرة ألا وتضع في حسبانك أن موظفيك سوف يستغفلونك ويسرقون الكثير من الوقت من غير أن يفعلوا شيئا به!
الثقافة التي تنتشر اليوم بيننا هي نقيض الأخلاق، واستغفال الناس والنصب عليهم أصبحا شطارة وذكاء. والمعضلة أن ما كان يتم في الخفاء وبالسرية أصبح اليوم يتم في العلن، ويتفاخر مقترفوه بأفعالهم؛ فسائق التكسي يتفاخر بأنه استطاع استغفال سائحين ليأخذ منهم ثلاثة أضعاف العداد، والناخب يتهم آخرين بالغباء لأنه استطاع بيع صوته بخمسين دينارا وليس بعشرين مثلهم، والابن يحكي لأبيه كيف استطاع الهروب من المطعم من دون أن يدفع الفاتورة، بينما أبوه ينظر إليه بإكبار فرحا بولده "الشاطر".
الأخلاق تحتضر لدينا، وهي لا يمكن لها أن ترتبط بالفقر والغنى بقدر ما ترتبط بثقافة مجتمعية بدأت بالتمظهر في سلوكنا من دون أن نحاول محاسبة أنفسنا على ما نقترفه من آثام يومية، بل ننزع إلى تبويبها في خانة الذكاء والفهلوة والشطارة.
حتى الرشوة، أصبح الحديث عنها أمرا عاديا جدا، ويتم من باب إثبات الذكاء حين يسرد موظفون لأصدقائهم الطرق الذكية التي يلجأون إليها من أجل إجبار مراجعين لا حول لهم ولا قوة على الدفع لكي يتم إنهاء معاملاتهم.
هذه الأمور جميعها يتم تداولها يوميا، وأصبحت مثارا للإعجاب وأحيانا للحسد، بمعنى أن شكل القدوة ومعاييرها قد تبدل خلال العقود الأخيرة، وبتنا نعيش في بيئة تخففت كثيرا من اشتراطاتها الإنسانية وصارت أقرب إلى البدائية أو الحيوانية بعد أن تخففت من الضرورة الأخلاقية للإنسانية.
قبل عقود قليلة، كانت الرشوة مجرّمة اجتماعيا، والغش نقيصة في النفس، أما اليوم فمتاح للمرتشي والغشاش أن يكونا وجيهين مقدّرين بعدما زورنا معايير الكرم والنبل والاستقامة والنزاهة.
الأخلاق في مجتمعنا تحتضر فعلا، والغريب أن الجميع يتمسك بالحديث عنها وعن ضرورتها، ولكننا بسلوكنا البهيمي نعترف بأنها لا لزوم لها، فكل ما يمكن أن تطاله اليد يصبح مباحا في ثقافة تعلي من قيمة الفهلوة والشطارة والسرقة وأكل المال الحرام!