تجارة المناصب!

الوظيفة الحكومية -وبالذات تلك المرتبطة بالجانب الأمني- كما غير الحكومية، الغاية منها تقديم الخدمات والأجواء الصحية لأبناء المجتمع، وبالمحصلة طمأنينة البلاد وهدوئها ووصولها لمرحلة الازدهار في جوانب الحياة كافة، والذي لا يمكن أن يكون -أي الازدهار- في ظل أجواء الرعب والخوف والفساد.اضافة اعلان
في دنيا الناس، هناك أنواع مختلفة من التجارة المعروفة للجميع؛ سواء بين الأفراد أو الشركات أو الدول. وهي تشمل البضائع الخدمية والاستهلاكية كافة المسموح بها وحتى الممنوعة، وأيضاً تجارة البضائع العسكرية. لكن يبدو اليوم أننا أمام جيل جديد من التجارة، هي "تجارة المناصب"، كما يقع في العراق منذ العام 2003، في واحدة من الظواهر المؤلمة والمدمرة لمستقبل البلاد.
بيع المناصب لم يقف عند حدود إعطاء الهبات والرشاوى للدخول في لجان المشتريات والمقاولات والمناقصات والمزايدات في الدوائر الحكومية، بل تعدى الأمر إلى شراء المناصب العسكرية. وسنحاول هنا تسليط الضوء على هذا الجانب، لأثره الكبير على أمن المواطنين وحياتهم.
حدثني أحد أعضاء مجلس النواب أنه يعرف ضابطاً اشترى -قبل عدة أسابيع- منصباً في منطقة الكرادة ببغداد بأكثر من 300 ألف دولار، وهو يخطط لاسترداد المبلغ عبر الاعتقالات العشوائية ومساومة الأهالي وأصحاب المحال التجارية. وبالنتيجة، ربما يكسب أضعاف هذا المبلغ عشرات المرات!
وهكذا حقائق مُرّة ليست جديدة؛ إذ سبق للنائب عن "كتلة الأحرار" منصور التميمي، أن أكد في منتصف كانون الأول (ديسمبر) "استمرار الفشل الأمني وتكرار الخروقات، وذلك لاستمرار ممارسة بعض القادة عملية بيع وشراء المناصب الأمنية".
وفي بداية حزيران (يونيو) الماضي، كشف مصدر مسؤول في محافظة الأنبار، عن "عودة ظاهرة بيع المناصب العليا إلى الواجهة من جديد في حكومة الأنبار". وأيضاً في الشهر ذاته، كشف مصدر قريب من لجنة الأمن والدفاع النيابية، عن وجود عصابات مقربة "من رئيس أكبر الأجهزة الأمنية في العراق مهمتها بيع المناصب والتعيينات بمبالغ خيالية وبالعملة الصعبة"، وأن "عصابات رئيس المنظومة الأمنية ما تزال موجودة بعد إقالة رئيسهم. وهذه العصابة تبدأ بالدائرة المقربة ومنهم مدير المكتب الخاص مسؤول التحري والمراقبة، الذي يقوم بتغيير نتائج التحري من "غير مرضية" إلى "مرضية" مقابل مبالغ نقدية".
إن ظاهرة بيع المناصب تؤكد جملة من الحقائق، منها:
- وصول الفساد إلى مستويات لا يمكن القضاء عليها بسهولة، لأن ظاهرة تجارة المناصب تعني أن الخلل وصل لمن يفترض أنهم جزء من المنظومة الزارعة للأمن في البلاد!
- عدم الاطمئنان للاعتقالات العشوائية القائمة في الوطن، لأن غالبيتها تكون لأغراض ابتزاز شخصية، وبعيدة عن القانون.
- ينبغي إشراك المنظومة الاستخبارية في آلية اختيار القيادات الأمنية وعدم الاكتفاء بالترشيحات الشخصية القائمة على العلاقات، لأن غالبية هذه الترشيحات مبنية على المصالح الشخصية وبعيدة عن اختيار الكفاءات القادرة على خدمة الوطن والمواطن. ويمكن إضافة قيود "قاسية" يتم بموجبها التأكد من نزاهة القيادة الأمنية المرشحة لمنصب ما، وتكون المساءلة والمسؤولية على عاتق الأطراف التي قدمت التزكية للمرشحين في حال ثبوت استغلالهم الكبير للمنصب، حتى تكون آلية الترشيح دقيقة، ويمكن أن نصل بموجبها لبناء منظومة أمنية تحمي المواطنين.
- الإصلاح الحقيقي لا يكون إلا بتنقية وتصفية الأجهزة الأمنية من الفاسدين والقتلة والمجرمين، فالفاسد لا يمكن أن يكون ناشراً للأمن. وهذا يتطلب غربلة حقيقية لوزارتي الدفاع والداخلية.
- ينبغي تصفية الجهاز القضائي من كارثة المحسوبية والرشاوى التي نخرت روح العدالة في الدولة العراقية، لأن البلاد التي لا تمتلك قضاء عادلاً ستكون ساحة للصراعات بين الأقوياء والضعفاء، وهذا لا يليق بالدول المعتبرة والمحترمة.
ظاهرة بيع المناصب في الأجهزة الأمنية وغيرها، ينبغي أن تتنبه لها الحكومة قبل أن نجد -في يوم من الأيام- إعلاناً رسمياً لبيع المناصب في وسائل الإعلام العراقية والعربية!
فهل نتنبه لحجم الكارثة، أم أن الدولة بمجملها تُدار بهذا الأسلوب التجاري، وما نراه من خراب هو جزء من نتائج تجارة المناصب؟!