تجدد عبقرية الصحابة بحفظ القرآن الكريم في خلافة عثمان

أسامة شحادة*

مر معنا أن الله عز وجل قد تعهد بحفظ كتابه الأخير، وهو القرآن الكريم، من الضياع أو العبث: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر، الآية 9). وبيّنا كيف تم ذلك الحفظ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم بعد وفاته في زمن الخليفة الصديق رضي الله عنه.اضافة اعلان
واليوم، نستعرض حفظ القرآن الكريم في زمن خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، والذي تولى الخلافة في العام 23 للهجرة، بعد أن توسعت رقعة دولة الإسلام، ودخل فيها العديد من الدول والشعوب، واختلط فيها الصحابة والتابعون بهذه الأقوام الجديدة التي لا يعرف بعضها العربية. كما كان فيهم من دخل في الإسلام أو تحت جناح الإسلام وقلبه يقطر حقداً وحنقاً بسبب ملك وجاه زال عنه، أو بسبب عصبية لجاهلية ووثنية وشرك ملأ قلبه، وما فتئ هؤلاء يحاولون هدم الإسلام من داخله باغتيال قادة المسلمين، كما فعل أبو لؤلؤة المجوسي بقتل الفاروق رضي الله عنه وهو يؤم الناس في صلاة الفجر، أو يحاولون هدم الإسلام بالتحريض على قيادة المسلمين وبنشر الشبهات والتحريفات بين المسلمين، كما فعل ابن سبأ اليهودي حين حرض أهل مصر والعراق على عثمان ذي النورين، ومن ثم غلا في علي رضي الله عنه وبذر بذرة التشيع بين المسلمين.
وباتساع دولة الإسلام وتفرق الصحابة رضوان الله عليهم في البلاد مجاهدين في سبيل الله عز وجل، أصبح هناك نوع من التباين والنزاع بين المسلمين في قراءة القرآن الكريم بسبب تنوع قراءة الصحابة للقرآن الكريم الذي أنزل على سبعة أحرف، وله عشر قراءات متواترة. وكان الصحابة قد عايشوا تلقي تلك الأحرف والقراءات من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يعرفون ذلك ولا ينكرونه. لكن المسلمين الجدد تلقوا القرآن من أحفاد الصحابة، فأصبح أهل الشام يقرأون بقراءة أُبيّ بن كعب، وأهل الكوفة يقرأون بقراءة عبدالله بن مسعود، وأهل البصرة يقرأون بقراءة أبي موسى الأشعري.. وهكذا، فوقع في ظنهم أن القرآن الكريم نزل بحرف واحد وقراءة واحدة فحسب، وحين يعرض لهم شيء جديد من قراءة القرآن كانوا ينكرونه.
فعن أبي قلابة قال: لمَا كان في خلافة عثمان، جعل الْمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، والمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلِّمين. قال: حتى كَفَر بعضهم بقراءة بعضٍ. فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا، فقال: "أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشدُّ فيه اختلافًا ولحنا. اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماما" (رواه ابو داود). وهو قرار تم بإجماع الصحابة، ونفذ بحضورهم وإقرارهم.
فكان القرار بجمع كلمة المسلمين على قراءة موحدة للقرآن الكريم، يتم اعتمادها في جميع البلاد، هو من أعظم إنجازات عثمان الشهيد ذي النورين، وكان نموذجاً جديداً على تكيف الصحابة والسلف مع المستجدات وتغير الظروف والبيئات، وأن باب الاجتهاد والسياسة الشرعية كفيل بحل كل المشاكل العصرية والمستجدة التي تعترض طريق أمة الإسلام، طالما توفر أهل العلم الصحيح وكانوا في موضع المُكنة والتدبير.
وكان غرض عثمان رضي الله عنه أن يجمع المسلمين على مصحف موحد مأخوذ من المصحف الذي جمعه أبو بكر رضي الله، حتى لا يلتبس على المسلمين شيء من أمر القرآن الكريم. فبعض الصحابة، رضوان الله عليهم، كان له مصحف خاص به، فيه مع القرآن بعض التفسير أو فيه بعض الآيات التي نسخت، فخشي عثمان أن يظن أحد أن ذلك من القرآن مستقبلاً.
قال الإمام ابن حزم: "خشي عثمان رضي الله عنه أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفا، لكي -إن وهم واهمٌ، أو بدَّل مبدِّل- رُجِع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد والوهم".
أما الخطوات التي نفذ بها عثمان جمع المصحف فكانت كما يلي:
1 - أمر عثمان بإحضار مصحف أبي بكر من عند أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، ليكون الأصل الذي ينسخ منه، لكونه تم بإجماع الصحابة. ثم أعاده لحفصة بعد إتمام النسخ.
2 - أمر أن يتولى هذه المهمة –نسخ المصاحف للأمصار– زيد بن ثابت الذي أشرف على جمع القرآن في زمن أبي بكر، ويعاونه أُبيّ بن كعب الذي كان في لجنة جمع القرآن زمن الصديق. ثم وسعت اللجنة التي تنسخ المصاحف حتى أصبحت مكونة من 12 شخصاً.
3 - كان المرجع عند اختلاف لغات العرب إلى لغة قريش التي نزل القرآن بها أولاً.
4 - منع عثمان من كتابة ما نسخ تلاوته من الآيات، أو ما كان من تفسير الصحابة للقرآن، أو ما كتب مع الآيات مما ليس من القرآن كبعض الأحاديث.
5 - أن يكتب ما ثبت في العرضة الأخيرة بين النبي وجبريل عليهما الصلاة والسلام.
6 - أن يشمل كل الأحرف التي نزل بها القرآن الكريم، فيكتب اللفظ الذي ثبت تواتر النطق به على أوجه مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، برسم يحتمل كلا اللفظين والنطقين دون علامة ترجح نطقاً على آخر، مثل قوله تعالى: "كَيْفَ نُنْشِزُهَا" بالزاي المنقوطة؛ فقد قرأها أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب "نُنْشِرُهَا"، بالراء المهملة، فكتبت بطريقة تقرأ بالوجهين.
وإذا تعذر رسم الكلمة برسم يجمع الوجهين، كتبت في بعض المصاحف برسم وفي مصاحف أخرى برسم آخر، مثل قوله تعالى: "وَوَصَّى بِها إِبْرَاهِيمُ"؛ فقد قرأها أبو جعفرٍ، ونافعٌ، وابن عامرٍ: "وَأَوْصَى بِها إِبْرَاهِيمُ" من الإيصاء. وقد رسمت في مصاحف أهل المدينة والشام بإثبات ألف بين الواوين.
7 - تم اعتماد ترتيب لسور القرآن الكريم في المصحف، حيث كان مصحف الصديق مرتب الآيات في السور، دون ترتيب للسور في المصحف.
8 - كان عثمان يراجع ويشرف بنفسه على الجمع والنسخ، فقد كان من حفظة القرآن الكريم وكان من كتبة الوحي زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
9 - وقد راجع زيد بن ثابت المصحف الذي نسخه ثلاث مرات قبل أن يعتمده عثمان للنسخ منه وإرسال النسخ للأمصار. وقد نسخ عثمان ستة مصاحف هي: المكي والشامي والبصري والكوفي، والمدني، ومصحفاً لنفسه، وهو الْمسمَّى بالإمام، والذي قتل وهو يقرأ فيه.
10 - ولأن الأصل في القرآن الكريم التلقي الشفهي، فقد أرسل مع كل مصحف حافظاً من الحفاظ ليقرأ للمسلمين القرآن.
11 - جمع ما عند المسلمين من صحف فيها قرآن ومصاحف وأحرقها، حتى تجتمع القلوب على مصحف واحد ويقطع دابر الشر والفتنة عن الأمة. فعن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "يا أيها الناسُ، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلا عن ملأ منا جميعا".
والفرق بين المراحل الثلاث من جمع القرآن الكريم هي:
1 - في زمن النبِي صلى الله عليه وسلم تم ترتيب الآيات في كل سورة، وكتابتها على ما توفر عند عدد من الصحابة بشكل غير منظم، وعدم جمعها في مكان واحد.
2 - في خلافة الصديق تم جمع المكتوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في صحف تشمل السور مرتبة الآيات، لكنها غير مرتبة السور، وليست في مجلد أو مصحفٍ واحد.
3 - في خلافة عثمان تم نسخ ما في صحف أبي بكر في مصحف جامع، ونسخ عدة مصاحف منه، وإرسالها إلى البلاد لتجمع شملهم على مصحف واحد.
وبهذا، يظهر لنا مدى دقة عناية النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده والمسلمون بكتاب الله عز وجل ومدى عظمة الإسلام الذي أطلق عبقرية الصحابة لحفظ القرآن الكريم بمنهج علمي متين ورصين، لا مكان للشك أو الطعن فيه.


*كاتب أردني