تجربة الخروج من لبنان.. بكاء طويل

تجربة الخروج من لبنان.. بكاء طويل
تجربة الخروج من لبنان.. بكاء طويل

معاريف

بن كاسبيت

21/5/2010

مع نهاية السبت في العشرين من أيار (مايو) 2000، جمع رئيس الحكومة ووزير الحرب ايهود باراك جلسة عاجلة للمجلس الوزاري المصغر في الكريات في تل أبيب. كان على جدول العمل، بطبيعة الأمر، خروج الجيش الإسرائيلي المتوقع من لبنان. وعد باراك بأن يخرج في غضون سنة واحدة بعد بدء ولايته. وقد أوشكت السنة أن تنقضي في غضون بضعة أسابيع (أدت حكومة باراك اليمين الدستورية في 6 تموز 1999)، وانتظر العالم بتأهب الانسحاب الإسرائيلي. ضغط حزب الله ضغطا شديدا على الشريط الأمني، وتضعضع جيش لبنان الجنوبي وكان الوضع في الميدان هشا قابلا للانفجار. أخذ قائد المنطقة الشمالية غابي اشكنازي أحد الوزراء إلى إحدى الزوايا وقال له قبل أن تبدأ الجلسة "يجب الخروج الآن. هذه الليلة حقا". بين اشكنازي أن الشريط الأمني قد ينهار في كل لحظة. الصفقة على شفا انحلال، وجيش لبنان الجنوبي يدرك الوضع، قد يحدث هذا في كل ثانية وسينهار كل شيء آنذاك مثل برج من أوراق اللعب.

اضافة اعلان

في أثناء الجلسة أثير اقتراح المغادرة على الفور. وأوضح من كان يجب أن يوضح أنه إذا تم الخروج في أثناء الليل، فسيكون من الممكن الخروج على نحو منظم. وإجراء مسيرة عسكرية، ونقل مسؤولية ولو رمزية إلى جيش لبنان الجنوبي والمغادرة مع رأس مرفوع. أيّد الوزيران حاييم رامون ومتان فيلنائي الاقتراح، بل خَطبا خُطبا حماسية في تأييده. كان على رأس المعارضين وزير الخارجية ليفي. فقد كان ما يزال يؤمن بالاتصالات في الأمم المتحدة، وراهن على سفره إلى نيويورك وعلى استمرار التباحث مع الجماعة الدولية. وللأسف الشديد تبنى رئيس الحكومة باراك موقفه وهو أن لا يخرجوا في هذه الأثناء ويستنفدوا الاتصالات السياسية.

كان ذلك قرارا سيئا. ففي اليوم التالي، في يوم الأحد 21 أيار (مايو)، بدأ انهيار جيش لبنان الجنوبي. سببت حقيقة أنه لم يوجد عمل مقر قيادة منظم قبل الانسحاب، بسبب خوف باراك من التسريبات، عدم يقين ويأس عند رجال جيش لبنان الجنوبي. لقد خافوا أن تتركهم إسرائيل في جنح الليل (وهو ما تبين صدقه)، وبدأوا يبحثون لأنفسهم عن ملاذٍ. في يوم الأحد ظهرت أولى الصدوع وبدأت تتسع سريعا. بدأت تسقط مواقع جيش لبنان الجنوبي. علموا في جيش لبنان الجنوبي أنه لا يمكن وقف الانهيار. أخذ الشريط الأمني ينهار. بعد ذلك بيومين، في الليلة بين 23 إلى 24 أيار (مايو)، خرج الجيش الإسرائيلي من لبنان في إجراء بدا شبيها بهروب مذعور. وأضاعت إسرائيل فرصة الخروج على نحو كريم مع نهاية السبت. ضرب حزب الله القوات الخارجة من الخلف، وكان نصرالله يستطيع أن يظهر لنفسه انتصارا بطوليا. فقد نجح هو مع بضع مئات من المقاتلين في أن يهزم أعظم جيش في الشرق الأوسط ويجعله يهرب من لبنان. حصدت إسرائيل ثمار هذا الاضطراب بعد ذلك بعشر سنوات.

نضج بيبي

لنعد سنة ونصف سنة إلى الوراء، إلى الشهور الأخيرة من ولاية رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. دعيت قبل الانتخابات بوقت قصير إلى حديث مع وزير الحرب آنذاك موشيه آرنس. تذكرون أن نتنياهو أعاد آرنس إلى النشاط بعد أن أقال اسحق مردخاي الذي مضى لينشئ حزب المركز استعدادا للانتخابات. سمعت من آرنس استعراضا أمنيا للجبهات المختلفة. وعندما بلغنا الشأن اللبناني أسمعني آرنس كلاما مدهشا.

قال وزير حرب نتنياهو: نحن نزن تغيير طابع الوجود الإسرائيلي في جنوب لبنان. سألته ما الذي يقصده وفصل آرنس قائلا: لا داعي إلى أن نوجد في مواقع ثابتة كبيرة تكون أهدافا سهلة لحزب الله. قد يجب أن نزن إخلاء المواقع، أو جزء منها وأن ننتقل إلى طريقة أخرى. اهتممت بالطريقة الجديدة، وتحدث آرنس عن "وجود متنقل". عن دوريات، واستطلاعات للجيش الإسرائيلي في الشريط الأمني تعيد إلى إسرائيل المبادرة وتخرج جنودنا من مقام البط المستهدف.

كان ذلك الكلام صارخا. عارضت حكومة نتنياهو الخروج من لبنان معارضة شديدة. وجعل ايهود باراك هذا الموضوع راية حملته الانتخابية، وبدأت النتائج تظهر في استطلاعات الرأي. فقد نتنياهو تفوقه على باراك، وظهر تعادل بل ربما أكثر من ذلك. أظهر باراك في المرة الأولى علامات تحليق. سألت نفسي أيمكن أن يكون نتنياهو قد لحظ المشكلة وأدرك أن الجمهور الإسرائيلي يريد الخروج من لبنان. على أية حال، كتبت ذلك في العمود الصحافي الذي نشر في هذه الصفحات حقا لكن بغير إبراز، وبغير عناوين وبغير تشويق. كتبت ذلك من غير أن أصدقه.

بعد ذلك فقط علمت التفصيلات الكاملة. أجل لقد بدأ نتنياهو ينضج. في آخر سنة من ولايته مال إلى اعتقاد أن المأساة اللبنانية يجب أن تنقضي. وأن ما يحدث في الشريط الأمني هو عبء على إسرائيل لا يوجد فائدة معه. أسهم حادثان تأسيسيان في نضج بيبي: الأول كارثة المروحيات التي نقشت في الوعي الإسرائيلي على أنها إحدى أشد الكوارث التي وقعت للجيش الإسرائيلي منذ تأسيسه. وكان الثاني سقوط العميد ايرز غيرشتاين. تبين أن قافلة غيرشتاين استهدفت بعملية محكمة من حزب الله، استعانت أيضا بمتعاونين محليين بل بمصوري صحف أجانب. كانت تلك قافلة تقليدية لبط مستهدف. استعمل ثلاثة أشخاص تأثيرهم في تلك الأيام على نتنياهو للخروج من لبنان. كان الأول شاي افيتال، والثاني عامي أيالون (رئيس الشاباك)، والثالث عميرام لفين. كان الثلاثة ضباطا ذوي أهمية وخبرة. وليسوا يساريين خلصوا إلى هذا الاستنتاج في منتصف تحليل يقظ للواقع. كان ذلك هو السبب الذي جعل بيبي يبدأ في التفكير بالسر، في طرق لوقف المأساة التي كلفت إسرائيل نحو 25 جنديا قتيلا كل سنة.

لم يشاءوا سماع ذلك في الجيش الإسرائيلي. فقد عارض الجيش الخروج معارضة شديدة. واعتقد قائد المنطقة الشمالية اشكنازي أن الخروج من جانب واحد سيكون كارثة. وكذلك اعتقد رئيس هيئة الأركان شاؤول موفاز. كان لهما حليف مخلص في منطقة استراتيجية هو دان هرئيل الذي كان آنذاك السكرتير العسكري لوزير الحرب اسحق مردخاي. لم يكن نتنياهو قادرا على تقديم هذه المبادرة طالما كان مردخاي في عمله. وقد تغلب الثلاثة: موفاز واشكنازي وهرئيل على الثلاثة: افيتال وايالون ولفين. وجدت صراعات خفية، بل إنهم ذات مرة أرهقوا قائد الفرقة، آفي ايتام، من أجل طرح الموضوع عن جدول العمل، ومر الوقت.

آنذاك أتى باراك، مع تصريحه الحاسم (في برنامج إذاعي مع دان مرغليت) عن أنه إذا انتخب لرئاسة الحكومة، فسيخرج الجيش الإسرائيلي من لبنان "مع اتفاق" في غضون سنة. بدأت أسهم باراك ترتفع، وهو بعد أن كانت هابطة في استطلاعات الرأي حتى ذلك الوقت. لقد أرهق الجمهور الإسرائيلي في لبنان، وضاق ذرعا بقتل الجنود، ولعق جراح المروحيات وأراد الخروج. أدرك باراك ذلك إدراكا ممتازا، بواسطة استطلاعات الرأي أيضا، وجعله أداة ضغط سياسية قوية جدا.

كذلك أدرك بيبي ذلك وإن يكن متأخرا شيئا ما. إن ذهاب مردخاي مكنه من المناورة. كان آرنس، وهو شخص ذكي ذو خبرة، تعيينا منه ولم يكن وراءه قوة سياسية. في تلك اللحظة ولدت مبادرة الخروج، وأن يحل محلها وجود متنقل. بدأ آرنس يقدم ذلك على رغم أنه لم يؤمن به. وهنا أيضا عارض الجيش معارضة شديدة. كانت تلك الأيام التي سبقت الانتخابات وعلم نتنياهو أن الأمر ضائع. فلن يخرج إذن من لبنان.

أيمكن أن نقيس من هذه الأحداث على وقتنا هذا؟ ربما نعم. تبين مرة أخرى أن نتنياهو زعيم ضعيف متردد وغير مبادر ومجرور ومراوغ. ويكون قد فات الوقت إلى أن يقرر. وتبين شيء آخر هو أن بيبي يحجم عن الخروج على الجيش الإسرائيلي. إنه لا يتخذ قرارات في مواجهة المستوى العسكري. ربما لأنه لم يكن رئيس أركان أو جنرالا في الاحتياط، أو لمجرد الثقة بالذات.

انقضت إحدى عشرة سنة من ذلك الحين وأصبح نتنياهو قد جاوز الستين، وليس من المحقق أنه تغير. في هذه المرة أيضا توجد قرارات ملحة حاسمة، مثل مهاجمة إيران. في هذه المرة أيضا إذا استقر على رأي فقد يكون مخالفا لتوصيات المستوى الأمني. وقد تجلب نتائجه علينا كوارث تجعل كارثة لبنان صغيرة. أتكون عنده القوة؟ أيجد العظمة؟ أيكون هذا بالضبط هو السبب الذي يجعله ينشئ تعلقا كهذا بايهود باراك؟ لا نعلم.

اتفاق؟ أي اتفاق؟

لنعد إلى ايهود باراك. إنه يحاول في الأسابيع الأخيرة أن ينسب لنفسه فضل الخروج من لبنان. أما الواقع بطبيعة الأمر فهو معاكس تماما. جلب باراك على إسرائيل كارثة باهظة. أجل، كان يجب الخروج من لبنان. كان من الواجب الخروج من لبنان. لكن ليس على هذا النحو. إن خروج باراك من لبنان، وطريقة إعلان ذلك وشكل تنفيذه، نجمت عنه جميع المشكلات والضربات التي حلت بنا في السنين التي تلت ذلك. الحديث عن حقائق تاريخية لا يستطيع الاعتراض عليها حتى مراسلو البلاط الذين يحيطون بباراك. إن إعلان باراك في ذاك البرنامج الإذاعي جعل الأوراق كلها خاسرة. وكانت حقيقة أنه سجن نفسه في أجل مسمى قاتل. حاول أن يجمع شيئا من النقاط في الرأي العام لكنه أنشأ واقعا صعبا. فقد عد الشرق الأوسط كله أيامه. مع دخوله موقع رئيس الحكومة على الفور ظهر ذلك العنوان عن القلعة على الجبل البركاني. وبدأ الصحافيون أعمدتهم الصحافية الأسبوعية بالعد التنازلي. كيف يمكن إجراء تفاوض في وضع كهذا. ومع من يمكن إجراء تفاوض؟ وكيف يمكن استعمال الضغوط وإحراز إنجازات وطلب أثمان عن إجراء تاريخي كهذا؟ لقد سمى الأجل وأقر الحقيقة سلفا، وحاول بعد ذلك المساومة. ليست هذه حتى إساءة تدبير بل فوضى. وقد دفعت إسرائيل ثمن هذه الفوضى دفعا كاملا.

عشية انسحاب الجيش الإسرائيلي نقلت جهات فلسطينية رفيعة المستوى رسائل يائسة إلى إسرائيل. ونشرت رسالة كهذه أيضا بهذه الصفحات. قام من ورائها أبو علاء الذي كان آنذاك رئيس فريق التفاوض الفلسطيني. قالت الرسالة إن خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان من جانب واحد حتى الحدود الدولية سيكون خطأ شديدا. فقد يفضي إلى نشوب انتفاضة. وقال الفلسطينيون كيف تتوقعون منا الهوادة معكم بعد ذلك؟ إذا كان بضع مئات من المحاربين يطردون إسرائيل حتى الخط الدولي فكيف يستطيع الشعب الفلسطيني أن يقبل أقل من ذلك؟ بعد سابقة سيناء والسلام مع الأردن والخروج من لبنان حتى آخر سنتيمتر، لن يكون للفلسطينيين مناص، قالوا. سيكونون مضطرين ببساطة إلى الثبات على خطوط 1967. لكن لم يوجد من يصغي إلى هذه الرسالة. كان باراك في عصف الانسحاب وعلم أنه لن يكون مع أي "اتفاق".

ما الذي قصده عندما قال "اتفاق"؟ ما أهمية هذا. فكر العالم كله أن الحديث عن سورية ولبنان، معا أو على حدة. وعندما سئل ماذا سيفعل إذا لم يحرز اتفاقا، رفض باراك الإجابة. فلماذا حدد هذا الأجل الكارثي بمدة سنة؟ لماذا مدة سنة؟ لماذا لا نخرج على الفور إذا أردنا الخروج؟ أليس القتلى خلال سنة كاملة خسارة عظيمة؟ كان يستطيع أن يعلن بأنه سيخرج من لبنان بغير أجل مسمى وأن يستعمل الخروج آنذاك ورقة مساومة مع لبنان ومع العالم ومع أميركا وأوروبا لإحراز شروط جيدة، ولاضطرار حزب الله إلى القيام بإجراءات. لكنه لم يفعل كل هذا. كان المهم بالنسبة له هو أن يفوز في الانتخابات.

في النهاية، جرت محاولة بائسة لعرض الاتفاق على أنه "اتفاق" مع الأمم المتحدة على رسم الحدود. هذا انفعالي بقدر كبير. بالمناسبة استمر الجدل في خط الحدود إلى اليوم (انظروا مزارع شبعا). لو أن باراك فكر بالأمر قبل ذلك لعلم أنه يمكن إحراز مكاسب مناسبة من الانسحاب، ويمكن إملاء جزء من خط الحدود، ويمكن استعمال فرنسا في مواجهة لبنان على نحو سري. لكن باراك مثل ارييل شارون بالضبط بعد ثلاث سنين من ذلك فضل الخروج فحسب. أن يرمي المفاتيح إلى لا مكان، ليكسب من يمسك بها. وفي حالته أمسك حزب الله بها. وفي حالة شارون أمسكت حماس بها. من الذي ربح؟ من المؤكد لسنا نحن.