تحرير الفضاء العام

ما يزال الجدل العام منذ العام 1989 حتى اليوم مثل مباراة لا يعرف فيها الفرق المتبارية ولا اللاعبون ولا الاتجاهات والتصنيفات، بل لم نحدد بعد ما اللعبة؟ ومن مع من وضد من؟ وفي الوقت نفسه فإن الجمهور يصفق لكل هدف ويهاجم اللاعبين والفرق بلا موقف يملكه ولا تحديد واعيا واضحا لأطراف المباراة. وعلى سبيل المثال فإن القضية الأخيرة التي تفاعلت كثيرا وشغلت الرأي العام، لم تكن في حقيقتها سوى خلاف بين تيارين إسلاميين، ويفترض أنها لا تعني سوى فئة محددة وقليلة من المتدينين المنظمين والناشطين في الفضاء الديني والعام، ولا علاقة لمعظم الناس بهذا الجدل والانقسام القديم جدا، والذي لم يكن يصل منه إلى الإعلام قبل الربيع العربي سوى ما يتسرب من مقالات أو أخبار مختصرة وهامشية.اضافة اعلان
فالأفراد والجماعات والأمم منذ قيام الدولة الحديثة التي تستمد شرعيتها من الانتخابات تتجادل وتنقسم في الفضاء العام وفق الأولويات والتحديات الأساسية التي تبرر عمل وتشكيل السلطات السياسية التنفيذية والتشريعية، والمتعلقة أساسا بجمع وتنظيم الموارد العامة وإنفاقها بعدالة وكفاءة؛ الضريبة، والميزانية والانفاق العام والخدمات الأساسية، الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والنقل والإسكان والعمل وإدارة وتنظيم المدن والبلدات والبيئة والبحث العلمي والتجارة والاقتصاد والطاقة والماء والاستيراد والتصدير والصناعة والزراعة والمهن والحرف والسياسات والعلاقات الخارجية.
وفي ذلك ينقسم الاتجاه العام للمجتمعات والأفراد والنخب حول إدارة وتنظيم هذه القضايا، وهي تصنيفات وتقسيمات تقليدية معروفة ولا تعني المدح أو الذم، مثل الليبراليين والمحافظين واليسار والوسط واليمين. لكن الوصف والتصنيف السياسي في الأردن يبدو مرتبكا ومشوشا ومحملا بأفكار وتجارب نمطية، وحتى وصف الناس لأنفسهم أو الآخرين يبدو غير عملي ولا علمي أيضا؛ مدني، إسلامي، تنويري، ديمقراطي، تقدمي، إصلاحي،.. والحال أنها أوصاف وتسميات ومفاهيم قيمية لا تعكس الاتجاه العام  والفلسفي للتيارات والجماعات، ويمكن أن يوصف بها أو يدعيها كل فرد أو اتجاه. والأسوأ من ذلك أن المنتمين إلى الأفكار والاتجاهات لا يقدمون أنفسهم ولا يفهمون انتماءهم كما تستخدم تقليديا الأسماء والصفات.
إن الأصل في الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أنها مستمدة من أوصاف وتسميات تقليدية ذات طابع وظيفي محايد ودقيق. ولا تعني المدح أو الذم مثل ليبرالي. محافظ. يساري. وسطي. يميني. والأصل أن جميع هذه التيارات والاتجاهات بمن فيهم المتدينون علمانيون؛ فالعلمانية مظلة وفلسفة سياسية جامعة لكل الاتجاهات والأفكار والسياسات.  وأما التسمي بالقيم مثل التنوير والمدنية والديمقراطية والتقدم والاعتدال فهي ليست تصنيفات سياسية أو فلسفية أو فكرية محددة. ويمكن أن تطلق أو يدعيها جميع الأفراد والاتجاهات والجماعات مثلها مثل الشجاعة والكرم والإتقان وما يقابلها من أوصاف على سبيل الذم والانتقاص مثل التخلف والتطرف والاستبداد والجبن والبخل. ومن ثم فلا يجوز تصنيف الاتجاهات والأفكار والجماعات على أساس التنوير و أو المدنية و أو الدينية. فهي قيم وانتماءات جامعة لكل المواطنين والأمم والدول والجماعات.
وبالنسبة للعلمانية؛ فهي العقلانية الاجتماعية والأخلاقية. بمعنى أن الإنسان/العقل قادر وحده على تمييز وإدراك الحق والخير والجمال، والتمييز بين الخطأ والصواب؛ والنفع والضرر؛ والقبيح والحسن. وتحدد الليبرالية فهمها لهذه العقلانية في أن الحرية هي القيمة الأساسية العليا التي يستمد الإنسان منها قراراته ووجهته الفردية والجماعية والمؤسسية.
وفي ذلك يجب تقديم الجماعات كما الأفراد حسب المفهوم ودلالته العلمية التقليدية وكما هو أصلا وليس كما يفهمه الناس. حتى لو كان هذا الانتماء أو المفهوم لا يمنع من تأييد أو معارضة أو يحمل فكرة مشوشة ومغلوطة. وهنا فقط يبدأ الجدل العام، أو يمكن تحريره من الفوضى والعشوائية.