تحليل شخصيَّة فرويد على يد تلميذه فروم

تحليل شخصيَّة فرويد على يد تلميذه فروم
تحليل شخصيَّة فرويد على يد تلميذه فروم

الولد المدلَّل الذي أراد أن يكون مشهوراً

توصَّل سيجموند فرويد إلى منهج التحليل النفسي في أثناء عمله المباشر مع المرضى، كطبيب في فيينّا،  وتحمَّس له حماساً شديداً إلى حدّ أنَّه صار بالنسبة له بمثابة عقيدة مقدَّسة، وجمع حوله العديد من التلاميذ والمريدين، الذين أعجبوا بأفكاره الجديدة والجريئة، وقلبه لكلّ المفاهيم القديمة الخاطئة عن  المرض النفسي والمرضى النفسيّين وعن الشخصيَّة الإنسانيَّة بشكل عام. وقد أطلقت نظريَّته خيال علماء النفس والأدباء والفنَّانين في القرن العشرين، وفتحت دروباً جديدة للتفكير والإبداع؛ ذلك أنَّها استندت في الأصل إلى عدد من الأساطير، وقدَّمت، انطلاقاً من دراسة هذه الأساطير بالاستناد إلى فرضيات علميَّة جديدة لفهم الشخصيَّة الإنسانيَّة، عدداً من المفاهيم النفسيَّة التي راجت بصورة مدهشة في مختلف أنحاء العالم وعلى أوسع نطاق. كما اشتهر فرويد والفرويديّون بدراساتهم التفصيليَّة والمطوَّلة للأحلام. وهذا إضافة إلى أنَّ الخيال المجنَّح الخارج على ضوابط العادة والتقليد وسطوة الأفكار السائدة، كان هو الأداة الرئيسة التي استخدمها فرويد واستخدمها تلاميذه في مدرسة التحليل النفسي للوصول إلى مفاهيمهم وتصوُّراتهم وأفكارهم الجديدة. ومعروف أنَّ هذه كلّها على صلة وثيقة بالفنون والآداب. لذلك فقد انبثقت مدارس فنيَّة وأدبيَّة عديدة انطلاقاً من اكتشافات فرويد ومفاهيمه وتصوُّراته النظريَّة؛ من ذلك السرياليُّة والتجريديُّة، على سبيل المثال، بل ولقد استخدم الواقعيُّون أيضاً بعض التصوُّرات والمفاهيم الفرويديَّة في أعمالهم الإبداعيَّة، وشاع استخدام الأساطير والأحلام في الأدب والفن؛ سواء أكان ذلك على مستوى سطحي عادي كمساند ثانوي للسرد المباشر، أو على مستوى أكثر تعقيداً وتركيباً، من خلال استخدام تقنية الحلم أو الأسطورة للتعبير عن الفكرة أو ربَّما بصورة أعمق للتعبير عن الحالة الشعوريَّة من خلال وضع المتلقِّي في مواجهة مثير فنِّي أو أدبي يجعله يعيش الحالة الشعوريَّة نفسها. وكان تكنيك تيَّار الوعي أيضاً من نتائج تأثير مدرسة التحليل النفسي.

اضافة اعلان


وهكذا، فقد كان تأثير الفرويديَّة في علم النفس والأدب والفن في القرن العشرين، يشبه إلى حدٍّ كبير تأثير الماركسيَّة في السياسة والفلسفة والأدب والفن أيضاً والعلوم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وقد أثارت الفرويديَّة حماساً مشابهاً لما أثارته الماركسيَّة لدى الأنصار والمعجبين والمريدين وأوجدت مناخاً جداليّاً خلاّقاً في الأوساط العلميَّة والأدبيَّة المختلفة. ورغم تعدُّد مدارس علم النفس التي ظهرت بعد ظهور مدرسة التحليل النفسي وجاذبيَّة العديد منها وطرحها للعديد من الأفكار والأساليب والنظريَّات الملفتة، إلا أنَّ مدرسة التحليل النفسي ظلَّت هي الأكثر شعبيَّة وانتشاراً وشهرةً وتأثيراً في الحقول الإنسانيَّة الخارجة عن نطاق الحقل العلمي النفسي المباشر. ومع أنَّ العديد من تلامذة فرويد عارضوا بعض أفكاره ومفاهيمه المهمَّة، وخصوصاً أكثرها "قداسة" لديه، أي مفهوم الجنس ودوره كعامل محوري في نظريَّته، وأضافوا من عندهم مفاهيم جديدة إلى بنيانه النظري، إلا أنَّهم ظلُّوا جميعاً فرويديّين ملتزمين بمدرسة التحليل النفسي التي "اخترعها" فرويد، كما يقول أريك فروم تلميذه الذكي الشهير.


ومثلما استخدم العديد من الماركسيّين مفاهيم ماركس النظريَّة لكتابة سيرته ولفهم أبعاد شخصيَّته وكيفيَّة تكوُّنها، كذلك فعل العديد من الفرويديّين مع معلِّمهم؛ إذ استخدموا اكتشافاته في اللاوعي وأساليبه في التحليل النفسي ليكتبوا سيرته ويحلِّلوا شخصيَّته ويكشفوا غوامضها وأسرار تكوُّنها. ولكن في حين أنَّ ماركس ميَّز بين نفسه وبين اكتشافاته، في مقولته الشهيرة: "أنا لست ماركسيّاً"، باعتبار أنَّ الماركسيَّة قائمة على مبادئ الجدل(الديالكتيك) المادِّي، وأنَّ استخدامها وفهمها كأداة للتحليل والتفكير مرهونان، بالتالي، بالظروف الماديَّة العيانيَّة، ما يفتح باستمرار أبواباً واسعة تفضي إلى ما لا نهاية له من الاجتهادات والنظرات، بما في ذلك النظرات والاجتهادات المنصبَّة على فهم وتحليل شخصيَّة معلِّم الماركسيَّة الأوَّل وأفكاره واجتهاداته التي توصَّل إليها بناء على استخدامه الخاص لأدوات التحليل الماركسي. في حين كان هذا هو موقف ماركس، كان فرويد، على النقيض من ذلك، شديد الحساسيَّة تجاه أيَّة محاولة يقوم بها أيّ من تلاميذه لتحليل شخصيَّته بأدوات التحليل الفرويدي نفسها. يروي كارل غوستاف يونغ، تلميذ فرويد الأبرز و"خليفته" السابق، الحادثة التالية التي توضِّح موقف فرويد من هذه المسألة، يقول: "حلم فرويد حلماً ـ ولا أعتقد بسلامة المشكلة التي أبرزها ـ ، فسَّرت الحلم بأفضل ما أستطيع لكنَّني أضفت أنَّ بإمكاني أن أقول أكثر من ذلك بكثير لو زوَّدني ببعض التفصيلات الإضافيَّة عن حياته الخاصَّة. كان ردّ فرويد على كلماتي هذه نظرة غريبة، نظرة تحمل أقصى درجات الشك. ثمَّ قال: "لكنَّني لن أخاطر بسلطتي!".

ويقول يونغ: "وفي هذه اللحظة خسر كلّ سلطته".


ونستدل من هذا على أمر آخر مهمّ، وهو أنَّ فرويد فيما يبدو كان ينظر إلى مدرسة التحليل النفسي بوصفها حركة سياسيَّة، وأداة سلطويَّة بيده، وليست اتِّجاهاً علميّاً فقط. تؤكِّد ذلك الوقائع التالية:


1.  في رسالة منه إلى يونغ عام 1909، يقول: "من المدهش أنَّه في الأمسية نفسها التي تبنَّيتك فيها بشكل رسمي كابن أكبر، وكرَّستك خليفتي ووليَّ عرشي.. الخ"! فرجل العلم لا يحتاج إلى خليفة أو وليّاً للعهد.


2. تعامل مع التحليل النفسي، وخصوصاً مع نظرية الجنس، كعقيدة سياسيَّة(أو دينيَّة) مقدَّسة. وهنا أيضاً نستعين بيونغ ليروي لنا الحادثة التالية ذات الدلالة في هذا الموضوع: "مازلت أذكر بوضوح كيف قال لي فرويد: عزيزي يونغ، عاهدني على عدم التخلِّي عن نظريَّة الجنس أبداً. فذلك أمر بالغ الأهميَّة. أترى، يجب أن نجعل منها عقيدة، وحصناً لا يهد". ويضيف يونغ قائلاً: قال لي ذلك بانفعال عظيم، وبنبرة أب يقول: "عاهدني على أمر واحد يا ابني العزيز، أن تذهب إلى الكنيسة كلَّ أحد". ويتابع يونغ قائلاً: "سألته بشيء من الدهشة: "حصن؟! ضدَّ من؟!" فأجابني: "ضدَّ الموت الأسود للطين". وهنا تردَّد برهة، يقول يونغ، ثمَّ أضاف: ضدَّ الإيمان بالقوى الخفيَّة".


3. كان يتعامل مع أيّ وجهة نظر مختلفة يبديها أحد تلاميذه باعتبارها تمثِّل انشقاقاً خطيراً، ليس فقط على نظريَّته بل أيضاً على زعامته، فيحاول بكلّ جهده ثني تلميذه "المنشق" عن "هرطقته"، فإذا لم ينثنِ، كان ذلك يؤدِّي حتماً إلى القطيعة التامَّة بينهما.


4. يؤكِّد على هذا الأمر كلّ من جونز وفروم. يتحدَّث فروم عن الطابع شبه السياسي ل‍"حركة التحليل النفسي"؛ فيورد عناوين القسم الأوَّل من المجلَّد الثاني لسيرة فرويد التي كتبها آرنست جونز: فرويد يخرج من العزلة(1901 ـ 1906)؛ بداية شهرته الدوليَّة(1906 ـ 1909)؛ الجمعيَّة الدوليَّة للتحليل النفسي؛ الخصوم؛ الانشقاقات(1911 ـ 1914)؛ اللجنة؛ سنوات الحرب(1914 ـ 1919).


ويقول فروم: "إنَّ من يقرأ هذه العناوين دون أيّ معلومات مسبقة، لن يشكّ مطلقاً في أنَّ الكتاب يتناول سيرة حركة سياسيَّة أو دينيَّة، في نموِّها وانشقاقاتها، أمَّا أن يكون الأمر تاريخ طريقة علاجيَّة أو نظريَّة نفسيَّة، فذلك سيكون مثار دهشة كبيرة عند القارئ. ويقول فروم بأنَّ فرويد لم يكن ليرضى أن يكون في نشاطه مثل أيّ عالم عادي آخر، وينقل عن جونز أنَّ فرويد "أعلن ما بين عام 1910 و1914 عمَّا سمِّي حركة التحليل النفسي، وهي تسمية غير موفَّقة، شاع استخدامها لدى مناصريها وأعدائها على حدٍّ سواء". ويقول أيضاً أنَّ فرويد كتب إلى يونغ قبل تأسيس "الحركة" بوقت قصير يقول أنَّه يفكِّر في جمع مؤيِّديه في مجموعة أكبر تعمل من أجل هدف عملي. لقد فكَّر في أنَّ "رابطة الأخوَّة الدوليَّة للأخلاق والثقافة" هي الإطار الذي يمكن أن يجمعه مع مؤيِّديه. ثمَّ استبدلها بفكرة" الأخوَّة الدوليَّة للتحليل النفسي". ويتحدَّث عن الروح التي أسِّست هذه الجمعيَّة وفقها، فيقول: "لقد تأسَّست هذه الجمعيَّة بروح تختلف تماماً عمَّا يسود غالباً في جمعيَّة علميَّة. فقد نظِّمت وفقاً لمعايير ديكتاتوريَّة". ويدلِّل على ذلك بما كتبه فرنيزي إلى فرويد قبل "المؤتمر التأسيسي: "إنَّ المفاهيم التحليليَّة النفسيَّة لا تؤدِّي إلى مساواة ديمقراطيَّة: ينبغي وجود نخبة من النوع الذي حدَّده أفلاطون للفلاسفة" وردَّ فرويد على الرسالة قائلاً بأنَّ الفكرة نفسها قد خطرت له من قبل. ويقول فروم بأنَّ فرنيزي خطا خطوة أخرى، على هذا الصعيد "فبعد اقتراحه تشكيل جمعيَّة دوليَّة، لها فروع في بلاد عديدة، أعلن أنَّه من الضروري أن تخضع جميع الأبحاث أو المحاضرات التي يقدِّمها أي محلِّل لموافقة الرئيس". ويصف فروم المؤتمر الثاني للتحليل النفسي بأنَّه كانت له كلّ مظاهر المؤتمر السياسي: نقاش عاصف أدَّى إلى تأجيل المؤتمر إلى اليوم التالي. ثمَّ خلاف محتدم عندما وصل القوم إلى توزيع المناصب. فالمحلِّلون السويسريّون كانوا يريدون أن يكون الرئيس والسكرتير منهم، واعتبر محلِّلو فيينّا ذلك تجاهلاً لخدماتهم الطويلة والمتفانية. فكيف تعامل فرويد مع هذا الشقاق؟ لقد كان يهمُّه أن يتجاوز انتشار وتأثير التحليل النفسي دائرة المحلِّلين النمساويين اليهود المحيطة به. فراح يتوسَّل لجماعته النمساويين بأن يتنازلوا في سبيل هذا الهدف المهمّ، مذكِّراً إيَّاهم بالعداوة العنيفة التي تحيط بهم في فيينّا، ومؤكِّداً على ضرورة مواجهتها بدعم خارجي. ثمَّ ليضغط عليهم أكثر، ألقى معطفه بحركة مسرحيَّة وقال: "إنَّ أعدائي سيسرُّون لرؤيتي أموت جوعاً، وسينـزعون عنِّي حتَّى ملابسي". ويشير فروم هنا إلى "الحركة الدراميَّة والهستيريَّة نوعاً ما، للقائد السياسي الذي يريد إرغام أنصاره على قبول فكرة أن يكون التحليل النفسي حركة عالميَّة، بالتالي ضرورة نقل قيادته من أيدي يهود فيينّا إلى أيدي المسيحيّين السويسريّين". ويعلن خطوات "سياسيَّة" لتهدئة زعيمي التمرُّد: استقالته هو وتعيين أدلر مكانه. وموافقته على تأسيس مجلَّة شهريَّة جديدة يرأسها أدلر وشيتكل معاً، في مواجهة رئاسة يونغ لمجلَّة أخرى. ويصف فروم تصرُّف فرويد وفرنيزي والآخرين قائلاً: "لقد عبَّروا عن حماس أولئك الدين يتزعَّمون حركات شبه دينيَّة، لهم مصطلحاتهم، اجتماعاتهم السريَّة، يهاجمون ويهادنون. إنَّهم لا يملكون سمة العلماء الذين يعيشون هاجس مناقشة نظريَّاتهم".


وبعد القطيعة مع يونغ التي يصفها فروم بأنَّها الانشقاق الأكثر خطورة سياسيّاً، والأكثر ضرراً شخصيّاً لفرويد، يتمّ تشكيل لجنة دوليَّة سريَّة مؤلَّفة من سبعة أشخاص، منهم فرويد نفسه، لرعاية الحركة والتأثير على مسيرتها.


على أيَّة حال، إنَّنا بالحديث عن هذا الجانب، غير المعروف على نطاق واسع، لمدرسة التحليل النفسي، وخصوصاً بما قدَّمناه من عرض لآراء فروم في هذا المجال، نكون قد غصنا عميقاً في الكتاب الذي بين أيدينا: "مهمَّة فرويد.. تحليل لشخصيَّته وتأثيره". من تأليف أريك فروم، أحد أبرز تلاميذ فرويد اللاحقين. وهو محلِّل نفساني شهير، له العديد من الكتب في مجال علم النفس التحليلي منها:

"الإنسان الحديث والمستقبل"،

 "الخوف من الحريَّة"،

 "فن الحب"،

"ما وراء الأوهام"،

 "المجتمع العاقل"،

 "هل يسود الإنسان؟"،

 "مفهوم الإنسان عند ماركس"،

 "قلب الإنسان"،

 "أن تملك أو أن تكون"،

 "علم تشريح القدرة الإنسانيَّة على الهدم والتدمير"،

 "الحكايات والأساطير".


ولد أريك فروم سنة 1900 في مدينة فرانكفورت بألمانيا، ودرس في جامعات هايدل بيرغ وفرانكفورت وميونخ، ونال الدكتوراه عام 1922. وهو أحد رموز "مدرسة فرانكفورت" الشهيرة التي تشكَّلت من مجموعة من العلماء الشباب، آنذاك، ممَّن يعملون في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع: لوفينتال، ماركوزي، أدورنو، وبنجامين وبولوك. وقد التفَّ هؤلاء حول الفيلسوف وعالم الاجتماع المعروف ماكس هوركهايمر، حيث وجَّهت هذه المدرسة نقدها إلى ما أسماه هوركهايمر وادورنو "صناعة الحضارة" وعبَّرت عن خوفها من مجتمع الاستهلاك الجماهيري العريض. وحاولوا المزج بين الماركسيَّة والهيجليَّة الجديدة والوجوديَّة والفرويديَّة.


وفروم هو أيضاً أحد أبرز ممثِّلي مدرسة الفرويديّين الجدد، وبالإضافة إليه كان من ممثِّليها المعروفين  كذلك كلّ من: كارين هورفي، وه‍ . س . سلليفان، وأبرام كاردينر، وفرانز الكسندر، وه‍ . د . لاسويل، ومرجريت ميد. وقد ظهرت هذه المدرسة في ثلاثينيّات القرن الماضي، وحاولت تطوير نظريَّة فرويد من خلال التأكيد على البعد الاجتماعي في علم النفس، بخلاف ما كان الأمر لدى فرويد الذي ركَّز على البعد الفردي. كما أنَّهم تحوَّلوا من التفسير البيولوجي النفسي للسلوك الإنساني، بحسب فرويد، إلى التفسير المبني على علم الاجتماع وعلم النفس الأنثروبولوجي، ورفضوا نظريَّة فرويد عن الغرائز الجنسيَّة والعدوانيَّة، وتبنّوا نظرة مختلفة فيما يتعلَّق بالوعي واللاوعي، وأجروا عمليَّة تقييم شاملة لقناعاتهم في مختلف جوانب التحليل النفسي التقليدي. وممَّا يجدر ذكره أنَّ كارل غوستاف يونغ تلميذ فرويد الأشهر كان قبل ذلك بزمن طويل قد توصَّل إلى تصوُّرات مشابهة في الظاهر لما توصَّل إليه الفرويديُّون الجدد فيما بعد، حيث رفض اعتبار عامل الجنس مفسِّراً وحيداً لكلّ الأمراض ولتطوُّرات الشخصيَّة، كما أنَّه أكَّد على البعد الاجتماعي، وكان اكتشافه الأهمّ هو اللاوعي الجمعي. ولكن ثمَّة في الواقع فرق مهم بين يونغ وبين الفرويديّين الجدد، يكمن في تركيز يونغ على البعد "الروحي" وانشغاله به، في حين استفاد الفرويديُّون الجدد من نظريَّة وأفكار ماركس، وحاولوا التوفيق بين نظريَّتي ماركس وفرويد، على ما بينهما من تناقضات كبيرة، ورغم أنَّ تجربتهما اجتذبت قطاعاً واسعاً من المهتمين، إلا أنَّها قوبلت بالرفض الشديد من قبل الفرويديّين والماركسيّين على السواء. والحقيقة أنَّه ثمَّة أسس قويَّة لهذا الرفض موجودة في التناقضات الكبيرة بين النظريَّتين الأصليَّتين؛ ويمكن إيراد الأمثلة التالية على هذه التناقضات:


1. بالنسبة لفرويد هناك تناقض أصيل بين الفرد والمجتمع، بينما بالنسبة لماركس فالتناقض قائم بين الطبقات الاجتماعيَّة وليس بين الفرد والمجتمع. ويغلِّب ماركس دور العوامل الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة.


2. بالنسبة لفرويد لا يمكن إصلاح الإنسان، إذ أنَّ نزعة الشرّ مغروسة فيه على شكل غرائز بيولوجيَّة بدائيَّة. بينما بالنسبة لماركس فإصلاح الإنسان ممكن عن طريق تغيير النظام الاجتماعي الاقتصادي.


3. بالنسبة لفرويد التقدُّم والمدنيَّة تقود إلى عُصاب شامل لأنَّها مبنيَّة، بالأساس، على كبح الغرائز الإنسانيَّة البدائيَّة، الأمر الذي يؤدِّي بالإنسان المتمدِّن في النهاية إلى فقدان السعادة بسبب حدَّة الشعور بالذنب. أمَّا بالنسبة لماركس فالسعادة ممكنة من خلال الوصول إلى مجتمع تنتفي فيه التناقضات الطبقيَّة.


4. بالنسبة لفرويد التسامي القائم على كبح الغرائز وتوجيه طاقات الإنسان بما يتَّفق مع مواضعات المجتمع هو ما يؤدِّي إلى التطوُّر( ولكنَّه أيضاً كما رأينا يؤدِّي إلى عصاب شامل). وبالنسبة لماركس، الصراع الطبقي هو الذي يؤدِّي إلى التطوُّر وفق قانون نفي النفي.


5. فرويد محافظ اجتماعيّاً، لأنَّه كما رأينا يعتقد أنَّ الإنسان شرّير بالفطرة، وأنَّه لا بدَّ من كبح غرائزه لتلافي شروره ولبناء الحضارة. أمَّا ماركس فيعتقد أنَّ المجتمع الطبقي هو سبب الشرور والانحرافات، وأنَّ الإنسان يتَّجه تاريخيّاً نحو مجتمع حرّ، قائم على العدل والمساواة وإطلاق طاقات الإنسان.


6. لذلك فقد وقف فرويد ضدّ تحرُّر المرأة وضدّ المساواة بينها وبين الرجل، وكان ذا نزعة أرستقراطية، إلى حدّ أنَّه تحدَّث عن "علم نفس خاص بالرجل العادي يختلف عن علمنا"، أي علم النخبة العلميَّة. بينما كان ماركس نصير لحريَّة المرأة ومع إزالة كلّ أسباب التفاوت والتمييز بين البشر، بغض النظر عن اختلاف  المعتقد والجنس واللون والقوميَّة والعرق.


بعد هذا التوضيح، نعود إلى أريك فروم؛ فقد هاجر إلى الولايات المتَّحدة وشغل مناصب تدريسيَّة عديدة في نيويورك ومتشيغان ومكسيكوسيتي. تخلَّى عن مهنة التدريس عام 1965 ليتفرَّغ للبحث العلمي. وقد اشتهر فروم بنقده الشديد للاإنسانيَّة النظام الرأسمالي والحرب الأميركيَّة في فيتنام، وكان نشيطاً في مجال الدعوة إلى السلام ونزع السلاح الشامل، أيَّام الحرب الباردة.  غادر الولايات المتَّحدة فيما بعد واستقرَّ في سويسرا في مدينة تيسين إلى أن توفي عام 1980.


أمَّا كتابه الذي بين أيدينا: "مهمَّة فرويد.. تحليل لشخصيَّته وتأثيره". فيفتتحه بالحديث عن الصلة الوثيقة بين التحليل النفسي "، اختراع فرويد، وبين شخصيَّة مخترعه أو مؤسِّسه. ويرى فروم أنَّ القوَّة الانفعالية البارزة لدى فرويد هي رغبته في المعرفة وإيمانه الثابت بالعقل. ويعيد هذا إلى كونه جزء من إرث عصر الأنوار. وهو حصيلة الشكوك التي ولَّدها عالم ينهار من حول طفل ذكي(فرويد)، حيث كانت الإمبراطوريَّة النمساويَّة ـ الهنغاريَّة في حالة انحطاط تام ينبئ بأنَّه لا مستقبل لها. وهناك أسباب ذاتيَّة، برأي فروم، لهذا الميل، منها: الرغبة في الشهرة في حين أنَّه لم يكن يملك من أسباب تحقيقها سوى العقل. ومنها أيضاً "النقص في مشاعره العاطفيَّة، في علاقاته الإنسانيَّة، في الحب، وخاصَّة في تمتُّعه بالحياة"، أيضاً شعوره الدائم بالتهديد وبأنَّه مضطهد. ولكن من جهة أخرى كانت هناك شجاعته؛ بمعنى استعداده لدفع ثمن ثقته بالعقل وعدم الخضوع لمواضعات التفكير السائد. أمَّا الأسباب الحقيقيَّة لشجاعته فيتلمَّسها فروم عن طريق التساؤلات التالية: "إلى أيّ مدى يتعلَّق الأمر بموهبة يمتلكها فرويد منذ الولادة؟ وإلى أيّ مدى كانت شجاعته نتيجة إحساسه بمهمَّته التاريخيَّة؟ وإلى أيّ مدى كانت قوَّة داخليَّة ذات صلة بوضعه كطفل مدلَّل، دون منافس، إلى جانب أمِّه؟".


وبالنسبة لعلاقة فرويد بأمِّه فيفرد لها فروم فصلاً مستقلاً بعنوان "علاقاته مع أمِّه: ثقة بالنفس وعدم اطمئنان". وهو يلحظ في البداية أنَّ فرويد لم يقدِّم الكثير من المعلومات عن والدته في محاولاته لكتابة سيرته الذاتيَّة، وهو يعتبر هذا أمراً ذا دلالة مهمَّة. وقد استمرَّ ارتباط فرويد العميق بأمِّه بنفس القوَّة عندما كبر، و"كان يزورها صباح كلِّ أحد، ويستقبلها في المساء نفسه على العشاء". ويرى فروم أنَّ حب الأم غير المشروط، وخصوصاً إذا كان بدون منافس، يؤدِّي إلى الثقة بالنفس، وإحساس الشخص بأنَّه متفوِّق، ويختلف عن الآخرين، وإذا ما اقترن هذا بمواهب حقيقيَّة كان ذلك مرتَكَزَاً يستند إليه الإنسان لكي يبدع ويتفوَّق.


ويقول فروم: "إنَّ ارتباط فرويد القوي بأمِّه، الذي أخفى قسمه الأكبر ليس عن الآخرين فقط، بل عن نفسه أيضاً، من الأهميَّة بحيث أنَّه لا يلقي ضوءاً على طباعه فقط، بل يسمح بفهم أحد أهم اكتشافاته الأساسيَّة، أي عقدة أوديب". ويقول أيضاً: "لقد اكتشف فرويد إحدى تطلُّعات الإنسان الأساسيَّة: أمنية البقاء إلى جانب الأم، إلى جانب الطبيعة، إلى الوجود ما قبل الفردي وما قبل الواعي. لكنَّه نفى، في الوقت نفسه، اكتشافه الخاص عندما حصر الأمر في قطاع الرغبات الغرائزيَّة. إنَّ ارتباطه بأمِّه يكمن في أصل اكتشافه، لكنَّ مقاومته لهذا الارتباط هي التي حدَّدت هذا الاكتشاف وحرَّفته".


لكنَّ فروم يلقي الضوء، من جهة أخرى، على الجانب السلبي للارتباط بالأم: "لكن الارتباط بالأم، حتَّى لو كان مُرضياً ويفرض ثقة لا تناقش في الحب الأمومي، فإنَّه لا يفترض فقط ذلك الجانب الإيجابي المتعلِّق بالثقة المطلقة بالنفس؛ بل يحمل أيضاً وجهاً سلبيّاً، لأنَّه يخلق إحساساً بالتبعيَّة والانهيار في كلّ تجربة لا تتكرَّر فيها شروط الحب والإعجاب". ويرى فروم "أنَّ هذه التبعيَّة وذلك القلق قد شكَّلا عناصر مركزيَّة في طباع فرويد وعُصابه".


وبالنسبة لعلاقته بالمرأة، فهي، بحسب فروم، علاقة تقليديَّة تماماً؛ حب محتدم قبل الزواج، وعلاقة عاديَّة بعد الزواج؛ ذلك أنَّ المرأة بالنسبة له "عشيقة غالية في صباها، وزوجة محبوبة في نضجها". وكان غيوراً غيرة شديدة على زوجته انطلاقاً من نزعة التملُّك وليس الحب، وفرض شروطاً وقيوداً مشدَّدة على زوجته حتَّى في علاقتها بأهلها. وكان يسافر مع أصدقائه وليس مع زوجته. وكان يمضي معظم وقته في عيادته أو مع أصدقائه المحلِّلين النفسيّين، أمَّا زوجته فدورها في البيت فقط.


وفيما يتعلَّق بموقفه من المرأة بشكل عام، فقد كان معارضاً للأفكار التي تدعو إلى تحرُّر المرأة، ولم يكن يؤمن أصلاً بإمكانيَّة المساواة بين النساء وبين الرجال "إنَّ دفع النساء للصراع من أجل الحياة، مثل الرجال تماماً، فكرة محالة. فإذا اعتبرت، على سبيل المثال، أنَّ صديقتي الناعمة والفاتنة منافساً لي، فإنَّني سأكتفي بأن أقول لها، كما فعلت منذ سبعة عشر شهراً، إنَّني متيَّم بها، وإنَّني أرجوها أن تنسحب من النافسة لتهتم بمسكني".


ويعيد فروم الجفاف في مشاعر فرويد إلى كونه "مع غرابة هذا، رجلاً ذا اهتمام ضعيف نسبيّاً بالنساء، وذا قدرات جنسيَّة ضئيلة". ومع أنَّه يؤكِّد مع جونز، كاتب سيرة فرويد "بأنَّ زوجة فرويد كانت بكلّ تأكيد المرأة الوحيدة في حياته العاطفيَّة"، إلا أنَّه يلاحظ معه أيضاً "أنَّ القسم الأكثر انفعالاً ورغبة في الوجود قد هدأ مبكِّراً قبل الكثير من الرجال عادة". فهو عندما كان في الأربعينيّات من عمره، يندهش من ميله جسديّاً ذات مرَّة إلى امرأة شابة وملامسته لها ملامسة خفيفة وعابرة. ثمَّ وهو في السادسة والخمسين يقول في إحدى رسائله: "الآن، وبشكل طبيعي يشبع الرجل المسن الليبيدو بتوزيعه للمال". أي أنَّه يؤكِّد هنا انتهاء الرغبة في الإشباع الجنسي. وقد ترك هذا الوضع الخاص أثراً واضحاً على آرائه وأفكاره في موضوع الجنس، فهو يعتقد، على سبيل المثال، أن الجنس لا يمكن أنَّ يؤمِّن لرجلٍ متمدِّن إلا إشباعاً محدوداً. وهو يعتقد أيضاً أنَّه "بعد مضي ثلاث، أو أربع، أو خمس سنوات تتبخَّر وعود الزواج بإشباع الحاجات الجنسيَّة".

 وكذلك فرضيَّته التي تقول أنَّ الحضارة والثقافة تنتجان عن إلغاء الغرائز. ويرى فروم أنَّها سمة شائعة عند فرويد أن يجعل من تجربة فرديَّة حالة عامَّة. ويخلص فروم إلى أنَّ "فرويد ناطق كبير باسم الجنس، لكنَّه متزمِّت نموذجي"، وأنَّ "نظريَّاته عن النساء ليست سوى "عقلنات" ساذجة لأحكام ذكوريَّة، وخاصَّة لأولئك الرجال الذين يلجأون للسيطرة لإخفاء خوفهم من النساء".


وفيما يتَّصل بعلاقته بالرجال، يرى فروم "أنَّ تبعيَّة فرويد لشخص الأم لا تقتصر على زوجته وأمِّه، بل نقلها إلى الرجال أيضاً: الأكبر سنّاً كبرويير، والمجايلين له كفليس، والتلاميذ كيونغ. والمشكلة هي أنَّه كان أيضاً "ذا كبرياء شديد إزاء استقلاله"، كما يقول فروم، ولذلك "كان غروره يدفعه لكبت كلّ وعي بهذه التبعيَّة ورفضها تماماً، بأن يقطع كلّ علاقة صداقة منذ اللحظة التي يشعر فيها بأنَّ الصديق لا يقوم تماماً بدوره الأمومي. لهذا السبب اتَّخذت علاقاته مع الأصدقاء منحى واحداً: صداقة مكثَّفة خلال بضع سنوات، ثمَّ قطيعة تامَّة، تصل بشكل عام إلى حدّ الكراهية". وكان فرويد واعياً لميوله التبعيَّة هذه "إنَّني قليل التكيُّف مع دور الطفل المحمي. لقد عشت دائماً رغبةً قويَّة في أن أكون، أنا نفسي، رجلاً قويّاً". ويعلِّق فروم على ذلك قائلاً: "ذلك هو جوهر الصراع: إنَّه يكره أن يكون محميّاً من أحد، وفي الوقت نفسه، يريد أن يكون كذلك، يريد أن يكون محطّ إعجاب، وموضوع اهتمام. ولم يتوصَّل إلى حلّ هذا الصراع".


علاقته بوالده: يقول فروم: "كانت علاقات فرويد مع والده، نقيض علاقاته مع أمِّه.فقد كانت هذه تدلِّله، وتؤثره، وتسمح له بأن يكون الملك بين أخوته وأخواته؛ بينما كان والده غير متحيِّز، وغير عدواني في الوقت نفسه".


في الثانية من عمره كان فرويد يبلِّل فراشه، وعندما كان والده يوبِّخه كان يجيبه قائلاً: " لا تقلق يا أبي، سأشتري لك سريراً جميلاً جديداً أحمر". ويستنتج فروم من ردِّ الفعل هذا لفرويد الطفل ما يلي: 1. صعوبة في تقبُّل النقد. 2. ثقة مفرطة في النفس. 3. تمرُّد على الأب، أو ممارسة السلطة الأبويَّة على الأب. وليؤكِّد حقيقة هذه النـزعة يروي فروم أنَّ فرويد، وهو في سنّ السابعة أو الثامنة، قام بالتبوُّل إراديّاً في غرفة نوم والديه. ما يشير، بحسب فروم، إلى "امتلاك رمزي لهذه الغرفة، يرتبط بميل عدوانيّ موجَّه حتماً نحو الأب". ويرى فروم أنَّه من الواضح أنَّ فرويد الصغير كان يشعر بالأهميَّة والتفوُّق بالمقارنة مع والده. ذلك أنَّ والدته التي كانت تدلِّله كانت هي العنصر الأقوى في الأسرة فيما يبدو. وممَّا زاده إحساساً بالتفوُّق على والده ما رواه له والده عندما كان في الثانية عشرة من عمره من أنَّ أحد المسيحيّين نزع له ذات يوم طاقيَّته الفرو من على رأسه، صارخاً في وجهه: "أيُّها اليهودي، تنحَّ عن الرصيف". وعندما سمع فرويد هذه القصَّة سأل والده بغيظ: "وماذا فعلت؟". أجاب والده: "التقطت طاقيَّتي". ويعلِّق فرويد فيما بعد على هذه الحادثة قائلاً: "لم يبدُ لي ذلك عملاً بطوليّاً من الرجل الكبير والقوي الذي يمسك بيدي". وهذا لم يكن ملائماً لشخص اختار أن يتماهى منذ طفولته مع البطل هنيبعل. لذلك ففي لا وعيه كان يتمنَّى والداً جديراً به. ويرى فروم أنَّ علاقة فرويد بوالده انعكست على إنتاجه، وخصوصاً في مفهومه المركزيّ "عقدة أوديب"، حيث الابن الذي يكره أباه الذي ينافسه على حبّ الأمّ. وفروم يرى أنَّ التفسير الجنسي لهذا التنافس يخفي الأسباب الحقيقيَّة والأساسيَّة: "الرغبة في الحب والإعجاب التي لا حدود لها من جانب الأم، وفي أن يكون بطلاً فاتحاً في الوقت نفسه، أدَّت إلى المطالبة بانتزاع السيادة من الأب، ومن الأخوة والأخوات". ويقترح تسميتها "عقدة يوسف". ويبالغ فروم في السير بهذا الاتِّجاه إلى حدّ أنَّه يرى أنَّ كتاب فرويد الأخير "موسى والتوحيد"، الذي نفى فيه أن يكون موسى يهوديّاً وحاول أن يثبت أنَّه كان ابناً لأرستقراطي مصري، إنَّما هو نوع من الإعلان اللاواعي من قبل فرويد عن رفضه للأب غير الجدير به: "كما أنَّ موسى لم يكن سليل يهود وضيعين، أنا أيضاً لست يهوديّاً، بل رجلاً ذا أصول ملكيَّة". ولكن من الواضح أنَّ فروم يأخذ عليه، في موقع آخر من الكتاب، حرمانه اليهود من بطلهم الأوَّل، بدون براهين صحيحة، خصوصاً وأنَّ ذلك جاء في فترة صعود النازيَّة، وأنَّ فرويد في هذا الكتاب خرج عن ميدانه الخاص! وهذا مع أنَّ الكتاب، في الحقيقة ممتع جدّاً، وفيه الكثير من اللمحات الذكيَّة التي تحرِّك نزعة قويَّة لدى الإنسان لإعادة التفكير في قصَّة موسى.


وتمرُّد فرويد على الأب، بالنسبة لفروم، هو الأساس الذي انبنى عليه تحدِّيه للرأي العام والسلطات الطبيَّة؛ بإعلانه آرائه في اللاوعي، والجنسيَّة الطفليَّة.. الخ. غير أنَّه يرى أنَّ فرويد كان متمرِّداً ولم يكن ثوريّاً؛ بمعنى أنَّه كان يواجه السلطات القائمة وهو يتمنَّى أن يكون هو نفسه سلطة يخضع لها الآخرون، بينما " الثور بالمعنى السيكولوجي، بحسب فروم، هو الشخص الذي تخطَّى انجذابه للسلطة، لأنَّه تحرَّر ذاتيّاً من ارتباطه بها، ومن رغبته في السيطرة على الآخرين".


وينتقل فروم، بعد ذلك، بصورة منطقيَّة تماماً في تسلسلها، إلى الحديث عن استبداديَّة فرويد، في فصل قائم بذاته. ويكشف فيه أنَّ فرويد كان غير متسامح على الإطلاق مع أيّ محاولة لإجراء أيّ تعديل على بعض نظريّاته، أو طرقه في العلاج والتحليل. ويورد كمثال على ذلك أكثر من حادثة. الأولى يرويها فرنيزي، الذي كان طيلة سنوات عديدة تلميذه وصديقه والأكثر ولاءً له، والأقل ادعاءً. حيث توصَّل من خلال عمله وتجاربه إلى أنَّ الموقف الجامد، غير الشخصي للمحلِّل النفسي(موقف المرآة) الذي اقترحه فرويد يحتاج إلى بعض التعديل بحيث يظهر المحلِّل سلوكاً إنسانياً محبّاً تجاه المريض. وعندما عرض فرنيزي ما توصَّل إليه على "البروفيسور"، بحسب تعبيره، تحدَّث له ذاك بكلمات أبويَّة قاطعة، وحذَّره من سلوك هذا الطريق الخطر الذي يبتعد به، بشكل أساسي، عن العادات والتقنيات التقليديَّة للتحليل النفسي. أي عن طريق فرويد نفسه. ويقول فرنيزي: "وضع هذا التحذير حدّاً للمقابلة. فمددت يدي مودِّعاً، لكن البروفيسور تركني واقفاً وغادر القاعة". أي أنَّه تعامل مع هذا الاجتهاد العلمي المختلف باعتباره موقفاً موجَّهاً ضدَّه بشكلٍ شخصيّ. وثمَّة مثال آخر يورده فروم على هذه النـزعة التسلُّطيَّة، يتمثَّل في موقفه من بعض "أعضاء الجمعيَّة الدوليَّة للتحليل النفسي الذين لم يظهروا ولاءً كافياً تجاه (الحزب)". بتعبير فروم. إذ يقول في رسالة منه إلى جونز: "إنَّ رغبتك في تطهير الجمعيَّة اللندنيَّة من أتباع يونغ أمر ممتاز". بل إنَّ الموت نفسه لا يشفع لخصومه، ممَّن كانوا في السابق من أقرب أصدقائه إليه ثمَّ اختلفوا معه. فهو مثلاً يستنكر ما أصاب أرنولد زويغ من اضطراب بسبب موت أدلر، فيقول: "إنَّني لا أفهم تعاطفك مع أدلر. فبالنسبة لفتى يهودي من فيينّا، يشهد الموت في أبردين بحدّ ذاته على مهنة غير معروفة، وهو في الوقت نفسه برهان على ما وصل إليه. إنَّ العالم كرَّمه بحق، بأن أسدى إليه خدمة معارضة التحليل النفسي".


وتحت عنوان فرويد المصلح، يتحدث فروم عن إعجاب فرويد بالقادة العسكريين الكبار؛ وخصوصاً هنيبعل البطل القرطاجي، والجنرال اليهودي ماسينا في جيش نابليون، كما أنَّه كان شغوفاً بحروب نابليون نفسه. ولقد سكن في بيت غير ملائم، لمدَّة سبعة وأربعين سنة، لأنَّ زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي فكتور آدلر كان يسكنه! وكان يتماهى في أحلامه وتخيُّلاته وتصرُّفاته اللاواعية مع هنيبعل وموسى وكريستوفر كولومبوس، باعتباره هو الآخر مكتشف مثله، ومع غليوم الفاتح وغيرهم.


وأحب أن أثبِّت هنا نصّاً لفرويد عن إعجابه بهنيبعل لما فيه من مؤشِّرات ودلالات تضيء لنا جوانب مهمَّة من شخصيَّته: "كان هنيبعل بطلي المفضَّل في سنوات الدراسة. عندما درسنا الحروب القرطاجيَّة، لم أتعاطف، كالكثيرين من الفتيان أمثالي في ذلك السنّ، مع الرومان، بل مع القرطاجيّين. ولكن في الصفوف العليا عندما أدركت انعكاسات عرقي الأجنبي عليَّ، وعندما كانت اتِّجاهات رفاقي المعادية للساميَّة تدفعني لاتِّخاذ موقف واضح، تعاظمت في نفسي فكرة هذا المحارب السامي الكبير… وهكذا أصبحت الرغبة في الذهاب إلى روما، في حياة الحلم، قناعاً ورمزاً للكثير من الرغبات الأخرى، التي ينبغي من أجل تحقيقها العمل بثبات وتصميم قرطاجي، والتي يبدو إنجازها قليل التحقُّق نظراً لما آلت إليه رغبة هنيبعل".


وفي ختام هذا الفصل يتساءل فروم عن السبب الذي جعل "حركة" التحليل النفسي تختلف عن غيرها من النظريَّات العلميَّة، وخصوصاً عن الداروينيَّة التي كانت مثلها تلقي الضوء على تاريخ الإنسان وتميل إلى تغيير صورة العالم على نحو أكثر جذريَّة من أيّ نظريَّة أخرى في القرن التاسع عشر". ويرى أنَّ الإجابة تكمن جزئيّاً في تحليله السابق لشخصيَّة فرويد. "لقد كان ولا شك، عالماً كبيراً، لكنَّه مثل ماركس، الذي كان سوسيولوجيّاً وعالماً اقتصاديّاً كبيراً، كان لفرويد هدف آخر.

هدف لم يكن شخص مثل دارون يسعى إليه. أراد تغيير العالم تحت قناع المعالج والعالم، كان فرويد واحداً من كبار مصلحي العالم في بداية القرن العشرين".


يأتي بعد ذلك فصل عن "الطابع شبه السياسي لحركة التحليل النفسي"، وقد سبق وأن أوردنا بعض آراء فروم الأساسيَّة الواردة في هذا الفصل في موقع آخر من هذا الموضوع. ويختتم فروم هذا الفصل قائلاً: "ربَّما كان باستطاعة فرويد أن يصبح قائداً اشتراكيّاً، أو زعيم حركة أخلاقيَّة ـ ثقافيَّة، أو لأسباب أخرى(لأنَّه من أصل يهودي ربَّما؟ س . ق)، أحد رموز الحركة الصهيونيَّة. ربَّما كان باستطاعته ذلك.. ولكن، واقعاً، كان ذلك مستحيلاً، لأنَّه بالإضافة إلى رغبته في حلّ لغز الوجود الإنساني، كان يحمل همّاً يشغله كليّاً، فقد بدأ مهنته كطبيب، وكان شديد الحساسيَّة والشك في أن يصبح زعيماً سياسيّاً. إلا أنَّه، وفي ظلال مدرسة علميَّة، حقَّق حلمه القديم: أن يكون موسى الذي دلَّ الجنس البشري على الأرض الموعودة، أي اقتحام الهو بواسطة الأنا، والوسيلة الناجحة لذلك".


أمَّا فيما يتعلَّق ب‍"قناعات فرويد الدينيَّة والسياسيَّة"، فيرى فروم أنَّ فرويد عبَّر عن نفسه بوضوح فيما يتعلَّق بقناعاته الدينيَّة في كتابات متعدِّدة خاصَّة في "مستقبل وهم". فهو يعتبر الإيمان "عمليَّة تثبيت لشخص الأب الحامي، وتعبيراً عن الرغبة في الإنقاذ والمساعدة، بينما لا يستطيع الإنسان إنقاذ نفسه أو حتَّى مساعدتها إلا بالتخلِّي عن أوهامه الطفوليَّة وباللجوء إلى قوَّته وعقله وقدراته". ولكن "اتِّجاه فرويد السياسي أكثر صعوبة في التمييز، لأنَّه لم يعلن عنه مطلقاً. كما أنَّه أكثر تعقيداً وتناقضاً من موقفه إزاء الدين". فهو حيناً يبدو أقرب إلى الأفكار الاشتراكيَّة، وحيناً إلى الليبراليَّة، وحيناً يبدو قوميّاً نمساويّاً ـ هنغاريّاً متحمِّساً، خصوصاً عند اشتعال الحرب العالميَّة الأولى، ونفس الأمر ينطبق على حماسه لألمانيا في الحرب نفسها. ويرى فروم أنَّ آراء فرويد السياسيَّة، مثلما هي آراءه الاجتماعيَّة، هي آراء الرجل العادي من الطبقة الوسطى في أوروبا في تلك الفترة بمفاهيمه لادِّخار رأس المال وتنميته وللتبادل السلعي العادي. مع فارق أنَّه حاول تقعيد هذه المفاهيم الشائعة، علميّاً، من خلال نظريَّة التحليل النفسي. على أنَّ فروم يميِّز بوضوح اتِّجاه فرويد إلى أقصى يمين الليبراليَّة في رسالة من هذا الأخير إلى آينشتاين، وأيضاً في كتابه "مستقبل وهم"، حيث "أعلن أنَّ تقسيم الناس إلى قادة وأتباع هو وجه من وجوه اللامساواة التكوينيَّة التي لا تتغيَّر بين الناس. إنَّ الأتباع الذين يشكِّلون الأغلبيَّة الواسعة، يحتاجون إلى سلطة تتَّخذ القرارات من أجلهم، ويخضعون لها بشكل مطلق تقريباً. إنَّ الأمل الوحيد يكمن في هذا النخبة التي تشكِّل أرستقراطيَّة، قادرة على استخدام عقلها دون خوف في معركة الحقيقة.

وسيؤدِّي ذلك بشكل طبيعي إلى انبعاث مجموعة من الناس أتبعت حياتها الغرائزيَّة لدكتاتوريَّة العقل".


وفي الفصل الأخير بعنوان "ملخَّص ونتيجة"، يرى فروم أنَّ قاعدة التحليل النفسي كانت هي نفسها في كلّ مكان تقريباً؛ "الطبقة المتوسِّطة التي فقدت الحياة أي معنى بالنسبة لها. ليس لها أي هدف سياسي أو مثال ديني، لكنَّها تبحث عن معنى للحياة، وعن فكرة تضحِّي في سبيلها، وعن تفسير للحياة لا يتطلَّب إيماناً ولا تضحية، ويشبع حاجتها لأن تكون جزءاً من حركة هذه الحاجات جميعاً لبَّتها لهم حركة التحليل النفسي".


وفي الختام يتحدَّث عن ملخَّص لرؤيته لشخصيَّة فرويد، ونختار منه الجزء التالي: "وبالمجمل، إنَّه شخصيَّة تراجيديَّة أراد لأسباب ذاتيَّة مؤلمة، أن يرشد الإنسان إلى الأرض الموعودة للعقل والتناغم؛ إلا أنَّ هذه الأرض لم يستطع هو نفسه إلا رؤيتها من بعيد. وهو يعلم أنَّه قد لا يصل إليها مطلقاً، وربَّما ظنّ، بعد انشقاق يونغ، أنَّ الباقين بعده لن يصلوها هم أيضاً. هذا الرجل العظيم، هذا الرائد، سوف يموت وهو يشعر بإحساس عميق بالخيبة، رغم أنَّ كبرياءه لم يخدشه المرض، أو الهزيمة أو خيبة الأمل". ويضيف: "بالنسبة لعقول أكثر استقلاليَّة من أتباعه المخلصين، كان فرويد دون شكّ، رجلاً تصعب مخالطته والعيش معه، لكنَّ مواهبه، واستقامته، وشجاعته، والسمة المأساوية لحياته تفرض ليس الاحترام والإعجاب فقط، بل وأيضاً الحنان الودود الذي تشعر به تجاه إنسان عظيم حقّاً".