تخمة إخبارية

خسرت شبكات الأخبار التلفزيونية واحداً من مشاهديها الكثيرين، منذ أن قرر الموقّع على هذا الاعتراف الخطي، إدارة ظهره للشاشة الصغيرة، والاستعاضة عنها بالصحف الورقية وشبكات التواصل والمواقع الإلكترونية، لمتابعة ما يلزم الوقوف عليه، والإحاطة بالأحداث والتطورات الجارية، بعد أن تعرض هذا المشاهد المستباح، قياماً وقعوداً، لقصف إعلامي مركز، من عيار ثقيل، وشعر أنه مصاب بما يمكن تسميته، مجازاً، بأعراض التخمة الإخبارية.اضافة اعلان
واستدراكاً لكل تأويل محتمل، فإن من المعلوم أن لا أهمية لامتناع واحد أو أكثر من الناس، مهما كانت منزلته، عن متابعة نشرات الأخبار المتلفزة؛ ولا أثر لمقاطعة فرد أو جماعة على سعة قاعدة المشاهدين العريضة، الأمر الذي يجعل من خبر هجر الشاشة الصغيرة، هذا، مجرد رسالة احتجاج قصيرة، لا تقدم ولا تؤخر على جاذبية التلفزيون الكاسحة، أو في ما يقدمه من وجبات أخبار مطولة، ومشاهد مروعة، وبرامج حوارية فقدت قدرتها على الإثارة منذ مدة.
إذ تبدو لي نشرة الأخبار المسائية الطويلة، بما تتضمنه من مواد مصورة ومشاهد مؤذية، وتعليقات فظة، أقرب ما تكون إلى وجبة عشاء دسمة، يؤدي تناولها بانتظام كل ليلة، إلى إصابة ملتهمها بالتخمة، وبكل ما تفضي إليه هذه الحالة الشاذة من مضاعفات جانبية على الصحة، بما في ذلك الأمراض الناجمة عن الإفراط في الأكل المشبع بالدهون في ساعات الليل المتقدمة، حيث تترك النشرة الإخبارية، أو قل الوجبة الإخبارية، المضاعفات الصحية ذاتها.
وبالخبرة الذاتية المكتسبة حديثاً، وجدت أن آثار الأخبار المقروءة أكثر هوناً على القلب، وأخف وطأة على النفس، من نظيرتها المرئية، ربما لأن العين أبعد من الأذن عن مركز الدماغ، أو لأن من يرى ليس كمن يسمع بالضرورة، ناهيك عن حقيقة أن متصفح الجريدة، مثلاً، لديه كامل حرية الاختيار، ومتعة انتقاء ما يشاء من المواد المنشورة وفق ما يلائم هواه، فيما الجالس أمام الشاشة اللعينة، يظل نهباً لكل ما يُبث من هذر، وما لا تطيقه النفس.
وكما يحدث للمرء عندما يشبع حد الامتلاء، وتغويه روائح الطعام لالتهام المزيد من الطيبات، حدث لي مؤخراً لدى انهماكي أكثر مما ينبغي في ملاحقة مجريات الوقائع الجسام في العراق وبلاد الشام، فضلاً عن ليبيا واليمن وغيرهما في مختلف الديار العربية؛ إذ شعرت بالامتلاء تماماً، وخشيت على نفسي الإصابة بالتخمة، فأخذت عهد لها ألا أحمل عليها أكثر، وألا أزيد شقاءها شقاء آخر، وذلك بالامتناع عن مشاهدة المحطات الإخبارية، ولو إلى حين.
لا أعرف على وجه الدقة متى حدثت لدي نقطة التحول هذه، ولا أعلم عن ماهية القطرة التي أفاضت الكأس، وجعلتني أمتنع عن المشاهدة. على أنني أذكر أن نفسي عافت الأخبار المتلفزة، وضاقت ذرعاً بتناول وجبات المساء السامة، عندما تكشفت الحرب على الفلوجة (باسم الحرب على الإرهاب) عن مشاهد قتل وتهجير وتعذيب، لا يحتملها العقل ولا القلب، ولا تجيزها أيضاً كل الذرائع الرائجة عن محاربة "داعش".
وزادت الوقائع المتواترة من شمال الشمال السوري، وما تزخر به من فظائع قتل بالجملة، كل يوم وليلة، من رغبة النفس الواجمة في أخذ وقت مستقطع، وتغيير الوجهة عن المحطات المثيرة إلى شاشة المنوعات الخفيفة، التي لا تحفل ببث الأشرطة الصادمة، وتبدو كأنها تعيش في عالم آخر، لعل ذلك يهّون من حدة الروع، ويقي القلب من مخاطر التوتر الزائد وارتفاع ضغط الدم، والاستعاضة عن المتابعة التي توحي وكأن المتلقي مرابط في عين مكان الحدث، بقراءة الصحف المتاحة، والمرور بسرعة على عناوين المواقع الإلكترونية.
غير أن ما حسم الأمر وقطع الشك باليقين دفعة واحدة، وأحدث نقطة التحول لدي عن رؤية الشاشة، كانت تلك المشاهد المنقولة من نيس وميونخ، وغيرهما من المدن الأوروبية، لهول ما انطوت عليه الصور الحية من فظائع يصعب على الوجدان تحملها، وعلى العقل السوي فهمها. فقلت في نفسي لنفسي: ماذا دهاك يا صاحب القلب المرهف كي تواصل كل هذا العذاب الممض على مدار الساعة؟ دعك من دنيا التلفزيون، وانصرف من فورك إلى عالم الصحافة.