تخيُّل فلسطين: عن البرغوثي، درويش، كنفاني ولغة المنفى

Untitled-1
Untitled-1

رمزي بارود* - (كاونتربنتش) 26/2/2021

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

يستمر ملايين الفلسطينيين في العيش في المنفى، جيلًا بعد جيل، ويتفاوضون بدأب مؤلم مع هوياتهم الفردية والجماعية، غير قادرين على العودة إلى الوطن، ولا شاعرين بأنهم كلٌّ مكتمل حقاً. هؤلاء الملايين يستحقون أن يمارسوا حقهم في العودة، وأن تُسمع أصواتهم وأن يتم احتضانها.

  • * *
    للفلسطينيين، ليس المنفى مجرد فعل فيزيائي ينطوي على إبعادهم من ديارهم وعدم قدرتهم على العودة إليها. ولا هو أيضاً موضوعٌ عارض يتصل بالسياسة والقانون الدولي. كما أنه ليس فكرة أثيريّة، أو عاطفة، أو قطعة من الشعر. إنه كل هذه الأشياء ملتمّة معاً.
    أعاد موت الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، في عمان، وهو مثقف ارتبط عمله عضوياً بالمنفى، إلى مقدمة الذهن العديد من الأسئلة الوجودية: هل كان قدر الفلسطينيين أن يختبروا المنفى؟ هل يمكن أن يكون هناك شفاء من هذا العذاب الدائم؟ هل العدالة غاية ملموسة قابلة للتحقق؟
    ولد البرغوثي في العام 1944 في بلدة دير غسانة قرب رام الله. وبدأت رحلته في المنفى في العام 1967، وانتهت، ولو مؤقتاً، بعد 30 عامًا لاحقاً. وكانت مذكراته "رأيت رام الله" -التي نُشرت في العام 1997- محاولة رجل منفي لفهم هويته التي تشكلت في العديد من المساحات المادية والصراعات والمطارات. وبينما بقي الفلسطيني في البرغوثي، بطريقة ما، متماسكاً، فإن هويته كانت واحدة فريدة، لا يمكن أن يفهمها سوى الذين عانوا، بدرجة ما، من المشاعر الضاغطة للغربة أو الشتات.
    كتب البرغوثي في مذكراته، التي ترجمَتها إلى الإنجليزية في العام 2000 الكاتبة المصرية المعروفة، أهداف سويف: "أحاول أن أضع الغربة بين قوسين. وأن أضع نقطة أخيرة في سطر طويل من حزن التاريخ. التاريخ الشخصي والعام. ولكني لا أرى سوى الفواصل. أريد رتق الأزمنة. أريد وصل لحظة بلحظة. وصلَ الطفولة بالكهولة. وصل الحاضرين بالغائبين. والحضور كله بالغياب كله. وصلَ المنفي بالوطن. ووصل ما تخيلته بالذي أراه الآن".
    يمكن لأولئك المطلعين على الأدب الفلسطيني الغني والمعقد في المنفى أن يربطوا إحالة البرغوثي -ما يتخيله المرء مقابل ما يراه- بما كتبه مثقفون فلسطينيون آخرون عانوا من آلام المنفى أيضًا. وقد كتب غسان كنفاني وماجد أبو شرار وكثيرون غيرهما عن الصراع نفسه. وأدى موتهم -أو بالأحرى اغتيالهم- في المنفى إلى إنهاء رحلاتهم الفلسفية على حين غرة.
    يتساءل الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش، في قصيدته الشهيرة "من أنا، دون منفى"؟ وهو يعلم أنها لا يمكن أن تكون هناك إجابة مقنعة على الإطلاق: "ماذا سنفعل من دون منفى؟".
    يبدو الأمر كما لو أن الغربة كانت جزء لا يتجزأ من الشخصية الجمعية لأمة، وهي الآن وشم دائم على قلب وروح الشعب الفلسطيني في كل مكان. كتب درويش:
    "غريبٌ على ضفة النهر، كالنهر… يَرْبِطُني
    باسمك الماءُ. لا شيءَ يُرْجعُني من بعيدي
    إلى نخلتي: لا السلامُ ولا الحربُ. لا
    شيء يُدْخِلُني في كتاب الأَناجيلِ. لا
    شيء…".
    كانت استحالة أن يعود المرء كُلاً متماسكاً مرة أخرى في أشعار درويش والبرغوثي انعكاسات لتصوير كنفاني الخاص لفلسطينَ كانت قريبة إلى حدٍّ موجِع ومعذِّب بقدر ما كانت بعيدة.
    في روايته "عائد إلى حيفا"، يتساءل الراحل غسان كنفاني: "ما هو الوطن؟ هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟… إنني أسأل فقط".
    ولكن، لا يمكن أن تكون هناك إجابات، لأنه عندما يتجاوز المنفى نقطة منطقية معينة في سياق انتظار نوع من العدالة التي يكون من شأنها تسهيل عودة المرء إلى دياره، لا يعود من الممكن التعبير عنه، أو نقله، أو حتى فهمه بالكامل. إنه المسافة المجازية بين الحياة والموت، "الحياة" كما في التوق إلى لم شمل المرء مع ذاته السابقة، و"الموت" كما في معرفة أنه من دون وطن يكون المرء منبوذًا دائمًا –جسديًا، وسياسيًا، وقانونيًا وفكريًا، وفي كل شكل آخر.
    في قصيدته "لا مشكلة لديّ" يكتب البرغوثي:
    "وفي يأسي أتذكر
    أن هناك حياة بعد الموت
    لكنّي أسألُ
    يا ألله!
    أهناك حياة قبل الموت؟
    في حين أن الثقل الساحق للمنفى لا يقتصر على الفلسطينيين، فإن المنفى الفلسطيني فريد من نوعه. طوال فصل الغربة الفلسطينية كلّه، منذ الأيام الأولى للنكبة -تدمير الوطن الفلسطيني- حتى يومنا هذا، ما يزال العالم مقسوماً بين التقاعس، والتجاهل، ورفض الاعتراف بالظلم الذي حل بالشعب الفلسطيني.
    على الرغم من -أو ربما بسبب- نفيه الذي استمر لعقود، لم ينخرط البرغوثي في جدالات عقيمة حول المُلاك الشرعيين لفلسطين لأنه "نحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق بحيث نستردها بالبراهين". لقد فقدناها للقوة.
    وكتب في مذكراته:
    "عندما كنا نحن فلسطين، لم نجفل من اليهودي. لم نكرهه ولم نعاديه. كَرِهَتْهُ أوروبا العصور الوسطى، ولم نَكرههُ نحن. كَرِههُ فرديناند وإيزابيلا، ولم نكرهه نحن. عندما طلب مكاننا كلَّهُ ونفانا منه، وأخرجنا وأخرج نفسه من قانون التساوي، صار عدوًّا".
    في الواقع، نادرًا ما تظهر "الكراهية" في عمل البرغوثي -أو درويش، أو كنفاني، أو أبو شرار وآخرين كثيرين- لأن آلام المنفى القوية جدًا، تكون كلية الحضور، وتتطلب من المرء إعادة تقييم علاقته بالوطن من خلال علاقة عاطفية لا تمكن إدامتها إلا من خلال الطاقة الإيجابية، والحب، والحزن العميق، والتوق.
    يكتب غسان كنفاني: "ومع ذلك فهي (فلسطين) بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها، وبالنسبة لنا، أنتِ وأنا، مجرد تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة، وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار… غباراً جديداً أيضاً! لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط".
    يستمر ملايين الفلسطينيين في العيش في المنفى، جيلًا بعد جيل، ويتفاوضون بدأب مؤلم مع هوياتهم الفردية والجماعية، غير قادرين على العودة إلى الوطن، ولا شاعرين بأنهم كلٌّ مكتمل حقاً. هؤلاء الملايين يستحقون أن يمارسوا حقهم في العودة، وأن تُسمع أصواتهم وأن يتم احتضانها.
    ولكن، حتى عندما يتمكن الفلسطينيون من إنهاء نفيهم المادي، فإن الاحتمالات هي أنهم سيظلون مرتبطين به لأجيال.
    في درويش كان شعور المنفى قوياً، وفي البرغوثي أيضاً، كان المنفى "قوياً جداً". وعلى الرغم من حقيقة أنه حارب لإنهائه، فإنه أصبح هو. أصبح نحنُ.
    *صحفي ومحرر "ذا بالستاين كرونيكل". وهو مؤلف لخمسة كتب. آخر كتاب له هو "هذي السلاسل سوف تُكسر: قصص فلسطينية عن النضال والتحدي في السجون الإسرائيلية". وهو زميل باحث أول غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA)، جامعة الزعيم في إسطنبول.
    *نشر هذا المقال تحت عنوان: Imagining Palestine: On Barghouti, Darwish, Kanafani and the Language of Exile