تدخلات صندوق "النقد" قيد المحاكمة

أحمد عوض تعرضت تدخلات صندوق النقد الدولي الاقتصادية منذ عقود، وما تزال، للنقد والمراجعة من العديد من الأطراف، خاصة بعد اتساع نطاق وقوة تأثير هذه المؤسسة المالية الدولية على تفاصيل السياسات الاقتصادية في الدول التي ترتبط معها باتفاقيات. لم يقتصر منتقدو هذه التدخلات على المتضررين من تطبيق السياسات الاقتصادية المنبثقة عن هذه المؤسسة وممثليهم فحسب، بل اتسعت عاما بعد آخر، لينضم إليهم مؤسسات سياسية واقتصادية إقليمية وعالمية مرموقة، وخبراء اقتصاديون لهم باع طويل في متابعة الملفات الاقتصادية العالمية بشكل حثيث. تنامي ظاهرة منتقدي تدخلات صندوق النقد الدولي تبعت الآثار الاجتماعية الكارثية لجانب كبير منها، وعدم فاعلية هذه التدخلات في تحقيق أهدافها على مستوى عشرات الدول التي اضطرت الى اللجوء للصندوق للحصول على مساعدات وقروض ميسرة، وشهادة “حسن سلوك اقتصادي” تمكن حكومات هذه الدول من الحصول على قروض من دول ومؤسسات أخرى. وكما هو معروف، فإن المكانة المركزية لصندوق النقد الدولي في النظام الاقتصادي العالمي أعطته هذه الميزة؛ إذ من دون شهادة “الصندوق” التي تفيد بأن هذه الدولة تطبق سياسات مالية ونقدية “حصيفة” وقادرة على تسديد التزاماتها، فإن أبواب المساعدات الاقتصادية الدولية ستبقى مغلقة أمام هذه الدول، لذلك فإن الكثير من الحكومات تقبل على هذا الخيار مضطرة. منذ تأسيس صندوق النقد الدولي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، جرت تحولات كبيرة على ممارسات الصندوق على أرض الواقع؛ حيث انتقل الدور من تعزيز الاستقرار النقدي والمالي لدعم مسارات التنمية المختلفة للدول التي ترتبط معه باتفاقيات ثنائية، الى تعزيز الاستقرار النقدي والمالي لتمكينها من تسديد التزاماتها تجاه الدائنين، وتراجع دورها التنموي بشكل ملموس. أصبح جل عمل الصندوق وخبرائه فرض تطبيق سياسات وتدابير اقتصادية في الدول التي تلجأ إليه ،تبعث برسائل اطمئنان الى الدائنين سواء أكانوا حكومات أو منظمات دولية أو شركات أو أسواق مالية إن هذه الدولة أو تلك تستطيع الوفاء بالتزاماتها. تتسم هذه التدخلات، كما هو واضح لجميع المنغمسين بعمل الصندوق كفاعلين ومراقبين، بالتقشف، وهذه الإجراءات عادة ما يكون لها آثار اجتماعية قاسية على المجتمع والاقتصاد، فلأجل تخفيض الدين العام للدولة، عليها زيادة إيراداتها وتخفيض نفقاتها. زيادة الإيرادات تتم من خلال فرض مزيد من الضرائب، والتي غالبا تكون من مصادر غير مباشرة، مثل الضرائب على المبيعات والقيمة المضافة والمقطوعة على حساب ضرائب الدخل التصاعدية. يقابل ذلك تقليص الإنفاق العام، عادة، وبحكم التجربة على أرض الواقع يكون على حساب الحمايات الاجتماعية الموجه لدعم السلع الأساسية والتعليم والرعاية الصحية والأجور، ويتم فرض تعويم أسعار صرف العملات المحلية، والتي تنعكس على ارتفاع أسعار سلع، يدفع ثمنها أصحاب الدخول المحدودة والطبقة الوسطى. خلاصة تطبيق هذه التدخلات والإجراءات، في غالبية الدول، استمرار الارتفاع المتتالي للدين العام، والدخول في دوامة الاقتراض من أجل سداد الدين السابق، والعديد من الدول تقترض من أجل سداد فوائد الدين القائم والمتنامي، واستمرار عجز الموازنة عند مستويات مرتفعة. هذا الى جانب استمرار ضعف معدلات النمو الاقتصادي بسبب الضغوط التي تخلقها السياسات الضريبية غير العادلة، وارتفاع الأسعار الذي لا يقابله ارتفاع في الدخول، وارتفاع معدلات البطالة بسبب ضعف معدلات النمو الاقتصادي. فالإجراءات والتدخلات التي تناولناها لم تسهم في تحقيق الاستقرار المالي والنقدي للدول كما هو مخطط لها، بل عمقت ووسعت الأزمة لتصبح أزمة اقتصادية واجتماعية متعددة الأبعاد. المقال السابق للكاتب رسائل اقتصادية من قلعة الرأسمالية العالميةاضافة اعلان