تدريس المنطق

منذ أكثر من عقدين، نادى عشرات الأكاديميين والتربويين بإعادة تدريس الفلسفة في المدرسة الأردنية، لما تحويه من منطق قويم قادر على تفعيل الحياة الفكرية والإبداعية في مجتمعنا، ويستطيع أن ينقلنا من الحالة السكونية التي غرقنا فيها لعقود.اضافة اعلان
حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت هناك «مادة» للفلسفة في المناهج الأردنية لصف التوجيهي، وقد تم إلغاؤها بعد سيطرة طيف معين على وزارة التربية والتعليم، وعلى وضع المناهج. بينما يجادل خبير التعليم د. ذوقان عبيدات بأن ما كان موجودا ليس «مادة فلسفة»، بل «مذكرات في الفلسفة وضعت على عجل»، وأنه «كان مطلوباً حفظها لتقديمها في الامتحان».
وإذا كانت عملية تدريس الفلسفة في الوقت الراهن تخضع لـ«فيتو» خفي، أو مصدره خفي، فعلى الأقل ينبغي الانتباه إلى ضرورات إخضاع طلبة المدارس إلى مهارات التفكير المنطقي والنقدي والإبداعي والجمالي، بما تعنيه هذه المهارات من زيادة وعي الطالب بنفسه ومحيطه.
المنطق يعني الحرية؛ حرية التفكير والاستنتاج، والذي يسهم في إطلاق عملية إنتاج المعرفة، وتحديث منظومتنا الفكرية ككل، وهكذا يتم تفعيل العقل، واستدراج التفكير في الحاجات الإنسانية الملحة، بما فيها من تحديات، لا أن تظل العقول محبوسة وراء القضبان، وغير قادرة على القيام بوظيفتها الأساسية.
المنطق يعني نقد الوضع القائم، واستشراف الوضع القادم، ما يعني تعزيز الحرية والديمقراطية، وتبنى حوار مفتوح بين أفراد عديدين في المجتمع، الأمر الذي لا بد له أن يؤسس لمعرفة حقيقية، وتغيير جذري ينعكس على المجتمع.
طرائق التفكير القائمة اليوم لدى غالبية الطلبة الأردنيين قاصرة، فهم لا يتمتعون بأي تفكير ناقد، وغالبا ما تغيب عنهم أساسيات التفكير العلمي، لذلك سنجد لا محالة أن حال البحث العلمي لدينا لا تسر أبدا.
وفي حين أن السؤال العلمي للمنطق هو: «لماذا»، يجتهد نظامنا التعليمي في تكريس سؤال «ماذا» الذي يعلي من قيمة الحفظ، لا من قيمة التفكر والاستنباط ومحاولة الخروج من النمطية السائدة، إلى رحابة الأفكار التي لا تنتهي.
القيمة الأساسية للمنطق والفلسفة هي أنها قادرة على أن تعلي من قيمة جميع العلوم، ودونها ستتأثر جميع مخرجات تعليمنا الأخرى؛ في الطب والاجتماع والهندسة والعلوم، وغيرها، فالفلسفة إبداع يؤسس لتفسير الكون برمته، ومن دونه سيظل إبداعنا قاصرا. كما أن الفلسفة تستطيع تعليم النقد والحوار المنطقي الذي ينبني على كيفية طرح السؤال الصحيح، والسير بخطوات ثابتة وواثقة نحو تخوم إجابته.
من خلال الفلسفة يمكن لنا منح الطلبة الثقة بالنفس، ومهارات إضافية حقيقية يتم اكتسابها كصفات ثابتة ومتطورة، ففي دراسة نشرتها جمعية أطباء النفس البريطانية، أجريت قبل سنوات، على طلبة من سن 10-12 سنة»، حول تدريس الفلسفة وقدرتها في زيادة القوة الإدراكية لديهم، خلصت إلى أنه تمت ملاحظة مكاسب كبيرة في القدرة المعرفية اللفظية، وفي القدرة على التفكير.
وأكدت الدراسة الفائدة الكبيرة للأطفال من التفكير المشترك، ومن الأسئلة الجماعية، وهو ما يفيد في بناء الأرضيات الإنسانية المشتركة، والتفاهم والتسامح مع الأفكار والعادات والقيم المختلفة.
بالتأكيد فإن أمرا مثل هذا لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة، بل ينبغي أن يتم التخطيط له من جميع جوانبه، وأهم هذه الجوانب هو المعلم الذي لا بد له من الحصول على فرص تدريب وتمكين وتطوير مهارات، لكي يستطيع أن يؤدي دوره في هذه العملية.
إن هذا الأمر يعيدنا بالتأكيد إلى دور «المعلم الميسر»، الذي يمكن له أن يخلق بيئة تفاعلية حقيقية داخل الغرفة الصفية، لذلك ينبغي إخضاع المدرسين، أولا، إلى تعلم مهارات التفكير الناقد، ومهارات التيسير والتحفيز، واستخدام الاستفسار والسؤال كأرضية لتحفيز التفكير وخلق البيئة التفاعلية المطلوبة.
إقرار أمر كهذا، يمكن له أن يكون خطوة أولى في تبنينا نظاما تعليميا يبتعد ببطء عن التلقين الذين غرقنا فيه لعقود، ويمكن له أن يوفر لنا الأرضية لكي ننطلق في إصلاح العملية التعليمية التي ستحتاج جهودا كبيرة لوضعها على سكة المستقبل من جديد.
لكن، قبل ذلك كله، لا بد من تأكيد أن المنطق والفلسفة يحتاجان إلى الحرية، وعدم تحديد العقل بـ«ينبغيات» و«وجوبيات» لا لزوم لها في عملية التفكير. إن كنا قادرين على هذه الاشتراطات، فلننطلق بأسرع وقت!