"تدعيش" العراق وسورية!

أبرز عناوين صحيفة "الحياة" اللندنية أمس كان "نصف العراق تحت رايات داعش"؛ حيث تمكّن مسلحو التنظيم من السيطرة على مطار الموصل وأجزاء كبيرة من المدينة، بعد عمليات نوعية في سامراء، ومعارك متواصلة منذ عام مع جيش المالكي في الأنبار والفلوجة.اضافة اعلان
تكبّد الجيش العراقي خلال الأشهر الأخيرة خسائر جسيمة، وسقط فريسة سهلة في كثير من الأحيان لتنظيم "داعش"، الذي بات يسيطر على مساحات واسعة في العراق وسورية، ويتحوّل من دولة افتراضية إلى واقعية، على حد تعبير الصديق الباحث المتميز حسن أبوهنية.
من المفارقات أنّ "داعش" لا يمتلك اليوم قدرات سياسية وعسكرية فقط، بل حتى إعلامياً أصبح يتفوق على وكالات الأنباء والفضائيات الكبرى، وينافس شركات الإنتاج المختلفة بما ينتجه من أفلام ذات كفاءة فنية وجودة إخراجية عالية لعمليات التنظيم المتعددة التي يقوم بها في العراق في مختلف المناطق؛ مثل سلسلة أفلام "صليل الصوارم" (إلى الآن 3 أجزاء)، والتي تنقل مشاهد واقعية لقتل قادة الصحوات والجيش العراقي، وتنفيذ عمليات اغتيال بالسيارات، وتصوير التخطيط لاقتحام مبانٍ حكومية ومرحلة الإعداد لذلك.
زبدة القول هي أن تنظيم "داعش" عاد اليوم في العراق أقوى كثيراً حتى من المرحلة الذهبية السابقة، خلال زعامة أبي مصعب الزرقاوي له، قبل أن يتآكل بسبب الصحوات وانقلاب المجتمع السني عليه. فالتنظيم اليوم يحصد ويستثمر جيداً في سياسات رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي الطائفية العدائية تجاه السنة، وإصراره على تهميشهم وإقصائهم من النظام السياسي الجديد.
منذ العام 2008 إلى العام 2010، نجحت النخبة السياسية السنية في إقناع المجتمع السني بعدم ارتداء ثوب "القاعدة"، والعمل على الاندماج في النظام السياسي الجديد، والمشاركة مع القوى الشيعية في بنائه. وانحسرت "القاعدة"، وتركت السلاح أغلبية الفصائل المسلحة، ومن بينها الإسلامية، مثل الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وغيرهما، وتوجهوا نحو العمل السياسي واليومي. وبرزت فكرة الصحوات لتحجيم "القاعدة" وطردها من المناطق السنية. إلاّ أنّ الوعود الأميركية الزائفة، وسياسات المالكي المتراكمة وإصراره على تدمير تلك النخبة السياسية السنية، ثم الحملة العسكرية الدموية التي قام بها على انتفاضة الأنبار، كل ذلك لم يكن إلاّ المفتاح الذهبي لهجرة معاكسة وبصورة أكثر فعالية وحضوراً وتأثيراً إلى "داعش" والعمل المسلّح.
عدنا إلى مربع الصراع الدموي الطائفي. وهو ما لا يمكن مواجهته من قبل جيش المالكي مع ما يحصل عليه من دعم عالمي عسكري كبير، ولا أي جيش، حتى لو عاد الأميركيون إلى العراق؛ فهناك حاضنة سنيّة نمت مرّة أخرى وتكوّنت في العراق، بالتوازي مع انتشار "داعش" ونفوذه في سورية في أوساط سنية، وتمكّنه من الصمود والبقاء بالرغم من صدامه مع شقيقته "جبهة النصرة" التي تمثل "القاعدة" هناك، و"الجبهة الإسلامية"؛ إذ يسيطر "داعش" اليوم على أجزاء كبيرة من دير الزور والرقة شرق سورية وشمالها.
لمن ما يزال يتساءل عن "داعش"، فهي باختصارٍ شديد، التنظيم الذي تجاوز "القاعدة" نفسها، ويمثل امتداداً لأبي مصعب الزرقاوي ومنهجه المتشدد؛ إذ يركّز على إقامة دولة إسلامية صافية، ويعطي الأولوية للصدام الطائفي، ويتوسع في تكفير الخصوم حتى من الإسلاميين. فنحن نتحدث عن جيل جديد أكثر شراسة وعنفاً مما كنتم تسمعون عنه!
أخطر ما في الأمر أن هذا الفراغ السياسي الكبير في العراق وسورية ولبنان، وحالة الإحباط واليأس والخوف والشعور بتهديد الهوية لدى السنّة في هذه المناطق، سيجعل من هذا التنظيم بمثابة العنوان السياسي الجديد لهم، وهو السبب الرئيس الذي يفسّر صعوده وانتشاره وتمدده في الأشهر الأخيرة!