تدمير تدمر ونهاية العرب

يقف العالم على رؤوس أصابعه في هذه الأثناء، قلقا وتخوفا على مصير المدينة الأثرية العربية تدمر، بعد أن سيطر عليها تنظيم "داعش" فجر الخميس الماضي. وعلى الرغم من أن آثار هذه المدينة قد تعرضت لعمليات تخريب وتدمير متواصلة، عبر موجات العمليات القتالية التي تعرضت لها المنطقة منذ العام 2011، إلا أنها المرة الأولى التي تقع فيها المدينة الأثرية بأكملها تحت سيطرة "داعش". ووفق الخبرات القاسية في تعامل هذا التنظيم الظلامي مع المواقع التراثية في كل من سورية والعراق، فإن احتمالات تعرض هذه المدينة للتدمير واردة جدا، وهي آخر ما تبقى من آثار العرب قبل الإسلام، إلى جانب مدينة البترا في جنوب الأردن.اضافة اعلان
لا يمكن وصف أهمية مدينة تدمر التاريخية والثقافية للإنسانية جمعاء وللعرب تحديدا؛ فهي مدينة أثرية متكاملة، عمرها نحو ألفي عام، ينتشر فيها نحو ألف عامود، والعديد من المعابد والواجهات المعمارية، وسط صحراء بادية الشام التاريخية. وقد مر عليها الفاتحون المسلمون المبكرون قبل نحو ألف وخمسمائة عام، ولم يحركوا حجرا واحدا فيها، بل وقرأوا عليها السلام. وآثارها تمثل صورة مشرقة لمزيج ثقافي عربي وروماني، بتأثيرات إغريقية وشرقية متعددة، وعرفت باسم "بالميرا".
لكن قيمة تدمر في التاريخ السياسي والثقافي العربي لا تقدر؛ فحضارة التدمريين تقف إلى جانب حضارة الأنباط باعتبارهما أهم إنجاز حضاري للعرب قبل ظهور الإسلام. ففي القرن الثالث الميلادي، قامت مملكة عربية في تدمر أثبتت قوتها الحضارية بوصفها واحة حضارية فاخرة في وسط الصحراء. وتمكنت هذه المملكة من السيطرة على بلاد الشام  وهزيمة الفرس، ووصلت إلى آسيا الصغرى وأطراف مصر. فيما كانت نهاية ملكة تدمر القوية والمغامرة، المعروفة باسم "زنوبيا"، قصة قاسية؛ حينما اقتيدت أسيرة إلى روما، وانتقمت منها حضارة تقتل النساء.
كل هذا الثراء التاريخي والغنى الثقافي، يقع اليوم في أسر أكثر الموجات الظلامية التي عرفها التاريخ وحشية وعداء للحضارة. فلا نستغرب أن يكون تدمير آثار تدمر مجرد خبر عاجل في دورة الأخبار الكسولة التي تم تطبيع الناس والحكومات عليها، بعد أن أصبح نحو نصف مساحة سورية اليوم تحت سيطرة "داعش"، فيما يتقدم التنظيم بسرعة في العراق، بعد أن سيطر على مدينة الرمادي؛ عاصمة محافظة الأنبار.
الخبرات القاسية في عداء "داعش" للحضارة الإنسانية وتراثها، غير قابلة للمراوحة والانتظار. فما حدث قبل أسابيع وأشهر مع الآثار العراقية، يعد طعنة قاسية في الضمير الثقافي للإنسانية. إذ إن مشاهد المطارق الثقيلة وهي تهوي على رموز واحدة من أقدم وأرقى الحضارات الإنسانية، ستبقى ذكرى مخجلة في ذاكرة الأجيال. فكل الشعوب تتقاتل وتسيل منها دماء كثيرة، لكنها نادرا ما تقتلع جذورها بهذا الشكل المفجع. ومن ثم، فإن ما حدث بالفعل هو أكثر من مأساة ثقافية، بل كارثة ثقافية، حين تم تدمير أكثر من 180 تمثالا في متحف الموصل، معظمها تماثيل أصلية.
إلى هذا اليوم، لا يوجد تقدير موضوعي دقيق لحجم التدمير والخراب والإبادة التي تعرضت لها الآثار في العراق وسورية. وعلى الرغم من غضب المنظمات الأممية، وعلى رأسها "اليونسكو"، لهذه الجرائم والكوارث المتتابعة، إلا أننا لم نلمس أي جهد حقيقي واضح في هذا المجال.
تدمر هي أحد المواقع المدرجة على قائمة التراث الإنساني لمنظمة "اليونسكو" اليوم. وربما خلال ساعات، ستكون مدرجة على قائمة التدمير والخراب لتنظيم "داعش". أفلا يكفي هذا التهديد لتدخل أممي لحماية التراث الإنساني؟ ألا يهز ما يحدث الميثاق الأممي.