ترامب رائد ما بعد الاستعمار الحديث

منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانحسار الاحتلالات الاستعمارية المباشرة، بدأ ينشأ تصور أنّ هناك استعمارا جديدا مختلفا؛ يستخدم أدوات بشكل مبطن، ولكن ما يطرحه الرئيس الأميركي الحالي، هو إعلان واضح وصريح لما قالته نظريات "ما بعد الاستعمار"، أو "نظريات الاستعمار الحديث"، ما يجعل الحديث هو عن استعمار غير مبطن بأدوات واضحة. اضافة اعلان
وسط تصفيق بين حين وآخر، من الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس، وصمت أعضاء الحزب الديمقراطي، تحدث دونالد ترامب، الثلاثاء الفائت، عما أسماه "اللحظة الأميركية الجديدة"، وتُذكّر هذه العبارة بعبارة الكاتب اليميني الشهير، صاحب الفلسفة المعادية للمسلمين بشكل خاص، بداية التسعينيات، تشارلز كروثامر، عن "اللحظة الأميركية"، وكيف أنّ العالم أصبح أحادي القطبية، بقيادة أميركية، ومهمة أي إدارة أميركية، الحفاظ على هذه القيادة.
لاحقاً كما قال مفكرون وأكاديميون آخرون واقعيون، فإنّ ما قاله كروثامر، كان دقيقاً من زاوية أنّها "لحظة" فقط، فلم تستمر السيطرة الأميركية المطلقة. وما يطرحه ترامب الآن، هو كيفية استعادة هذه اللحظة، ولكنه بدلا من الحديث عن دور الولايات المتحدة الأميركية كقائد للعالم، بدل ذهاب الأميركيين للعالم كشرطي، كما حاولوا في الصومال، والبلقان، كما في التسعينيات، أو لجأوا للاحتلال المباشر في العراق في العقد الأول من القرن العشرين، فإنّه يمزج بين طرح "اللحظة الأميركية" بمفهومها التوسعي الذي طرحه كروثامر والمحافظون الجدد، مع طرح مدرسة أخرى في السياسة الأميركية، هي "الجاكسونية" التي ترتبط باسم أندرو جاكسون، الرئيس الأميركي الأسبق (1829 - 1837)، وقد نشرت "فورين أفيرز" قبل نحو عام دراسة عن عودة ترامب للجاكسونية، وخطاب الثلاثاء الفائت تأكيد مهم لهذه الأطروحة. وتختلف هذه المدرسة عن الانعزالية، التي تدعو إلى انسحاب الولايات المتحدة من العالم. فهي تدعو إلى الإبقاء على الاعتقاد بالتميز الأميركي عالمياً، وأنّ هذا التميز يجب أن ينعكس بتحقيق أمن ورفاه المواطن الأميركي، مع أقل دور ممكن عالمياً إلا بما يتعلق بالمصالح الأميركية مباشرة.
في علم الاجتماع نظرية مشهورة، تقول إنّ أي إنسان يحصل على مكانته بسبب الدور الذي يلعبه، فإذا لم يقم به يفقده، فرب الأسرة الذي لا يعيل أسرته ولا يرعاها يفقد مكانته، والأم التي لا تربي تفقد مكانتها، والقائد الذي لا يقوم بما عليه يفقد مكانته. والولايات المتحدة الآن تقول سأحتفظ بمكانتي دون دوري. أو تقول سأقوم بالحصول على مكانتي بقوتي.
لعب الأميركيون في القرن العشرين، دوراً في وراثة دور الاستعمار القديم، بما في ذلك مساعدة اللاجئين، والمهاجرين، ودول الاستعمار السابق، والولايات المتحدة (الترمبية) تقول الآن لن نقوم بهذا، نريد مهاجرين من العرق الأبيض الذي يعطينا وليس  الذي نعطيه، لا نريد لاجئاً نُهيئه ليعطينا بعد حين. ويركز ترامب على السياسة الداخلية، والأبطال الداخليين أو في الحرب الخارجية، كإِشارته إلى جندي قاتل في سورية. ليقول "حال اتحادنا قوي لأنّ شعبنا قوي"، وتحدث عن "العائلة الأميركية القوية"، مقابل الحديث عن جرائم المهاجرين.
في ترجمة هذا خارجياً، يريد ترامب جيشاَ "قوياّ جداً"، وطلب أيضاً من الكونغرس أنّ تذهب المساعدات الخارجية  "فقط إلى أصدقاء أميركا". وفي هذا كأنه يقول سنعتمد على القوة المباشرة الصلبة الهجومية، ويقول المساعدات الأميركية فقط لمن ينفذ ما نراه مناسباً. فالتصويت مثلا بشكل مخالف في الأمم المتحدة (في موضوع مثل القدس) يمكن أن يؤدي إلى وقف المساعدات.
لا يتحدث ترامب عن إصلاح أو تغيير ثقافي أو ديمقراطية وإصلاح عالمي بل يعود لخطاب وطني قومي لا يؤمن كثيراً، ولا يزعم،  وظيفة حضارية أو تنويرية، للولايات المتحدة، وهو ما كان المؤمنون بنظرية الاستعمار الجديد، يرونه غطاء للاستعمار الثقافي الفكري. وهو لا يدعي تقديم مساعدات لأغراض تنموية وإنسانية، كما ادعت الدول منذ الحرب العالمية الثانية، بل يربطه بالسياسة مباشرة.
كثيرٌ مما قيل إنه كان استعمارا غير مباشر باسم النظام والقانون الدوليين والمساعدات، يؤكد ترامب أنّه سيكون جزءا من المصلحة الأميركية المباشرة. لا يقول إنّه سيرجع للاحتلال وآليات الاستعمار التقليدي، ولكنه يكشف أن لا دور خارجيا إلا لمصلحة داخلية مباشرة وعاجلة.