تصاعد التوترات بين مصر وتركيا والمزيد من توتير المنطقة

3000
3000

محمد ماهر؛ وآيرينا تسوكرمان* - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 17/7/2019

اضافة اعلان

ينذر تصاعد نبرة العداء بين أقوى دولتين في الشرق الأوسط باتساع وتيرة الاضطرابات في تلك المنطقة المضطربة في الأصل، مما يعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر. فتركيا ومصر حليفتان تقليديتان لواشنطن منذ زمن طويل، ومع ذلك، قد يدفع النزاع القائم بتركيا إلى التقارب مع إيران وروسيا حتى في الوقت الذي تسعى فيه روسيا بنشاط إلى توثيق العلاقات مع مصر. وفضلاً عن هذا وذاك، إذا كانت واشنطن تتطلع إلى تفويت الفرصة على كل من إيران وروسيا لتقوية نفوذهما في المنطقة، فيجب عليها التوسط بين الطرفين -أو أن تعمل على الأقل على تقريب وجهات النظر بينهما، وهو ما قد يحد من خطورة احتمالات تصاعد المواجهة بين الطرفين.

  • * *
    مصر وتركيا هما أكبر دولتين في شرق البحر المتوسط؛ بالإضافة إلى إيران. وهما تضمان معاً ما يقرب من نصف إجمالي سكان الشرق الأوسط برمته. كما تمتلك الدولتان قوى عسكرية كبيرة، مما يجعلهما أقوى قوتين عسكريتين تقليديتين في الشرق الأوسط. وتعد القاهرة وأنقرة من أهم عواصم صنع القرار في العالم الإسلامي؛ فالقاهرة تضم مؤسسة الأزهر الشريف، أهم جامعة إسلامية في العالم، والتي تعد أحد أهم أدوات القوة الناعمة المصرية، بينما كانت تركيا موطن أخر خلافة إسلامية، والتي يُنظر إليها بحنين خاص في جميع أنحاء المنطقة.
    وعلى الرغم من أوجه التشابه بينهما، إلا أن الوقت الحالي يشهد صراعاً عميقاً بين البلدين في جميع أنحاء المنطقة، وذلك على الرغم من أن أنقرة والقاهرة حاولتا باستمرار تجنب العداء المباشر والمواجهة بينهما. وخلال الفوضى العارمة التي اجتاحت الشرق الأوسط بالتزامن مع موجات الربيع العربي، تصاعدت وتيرة التوتير بين البلدين وأثرت بدورها على الأوضاع في ليبيا، وسورية، والسودان، ومنطقة شرق المتوسط. وبالإضافة إلى زيادة احتمال المواجهة المباشرة بين البلدين، فإن الصراع التركي المصري يهدد أيضاً الاستقرار الهش في الشرق الأوسط، مما يشير إلى الحاجة إلى وسيط خارجي لحل هذه القضية الشائكة.
    في أعقاب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي من الحكم في مصر في حزيران (يونيو) 2013، استضافت أنقرة قيادات جماعة الإخوان ووفرت لها المأوى والحماية. كما شنت أنقرة حملة إعلامية ضد الحكومة المصرية الجديدة. وفي الرد على ذلك، قامت وزارة الخارجية المصرية في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2013 باستدعاء السفير المصري في أنقرة، وأمهلت السفير التركي في القاهرة 48 ساعة لمغادرة البلاد، وبدأت العلاقات -التي كانت إيجابية نسبياً في عهد مرسى- بالتدهور السريع. ويستند موقف تركيا من جماعة الإخوان المسلمين إلى التقارب الفكري بين حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه الرئيس التركي أردوغان؛ حيث يُعد الحزب الإسلامي التركي بمثابة النسخة التركية لجماعة الإخوان المسلمين. وبذلك، باتت أنقرة اليوم، بالإضافة إلى الدوحة، تمثلان أكبر بوق دعاية ضد النظام المصري.
    ونتيجة للتأثير الإقليمي الذي يتمتع به كلا البلدين، كان للصراع المصري-التركي أثر كبير على النزاعات الأخرى القائمة في الشرق الأوسط أيضاً. ففي ليبيا، تخوض البلدان حرباً فعلية بالوكالة؛ حيث تدعم مصر قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج التي اتهمتها القاهرة بأنها تدعم الميليشيات الإسلامية المتطرفة وتوفر لها الدعم السياسي والعسكري.
    أدت الحملة العسكرية التي شنتها قوات حفتر على طرابلس أيضاً إلى زيادة حدة التوترات بين مصر وتركيا؛ حيث التقى الرئيس السيسي، بالجنرال حفتر، مرتين في القاهرة على الأقل منذ الإعلان عن تلك الحملة في أوائل أيار (مايو) الماضي. وفي الوقت عينه، أشارت بعض التقارير إلى وصول سفينة تركية محملة بأسلحة وآليات عسكرية إلى ميناء طرابلس في ليبيا الخاضع لسيطرة الميليشيات، قادمة من ميناء سامسون التركي، وذلك في أعقاب إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفضه للعمليات العسكرية التي أطلقها الجيش الوطني الليبي للاستيلاء على العاصمة طرابلس.
    كان لدعم تركيا للميليشيات المعارضة في سورية أيضاً أثره على العلاقات بين البلدين؛ حيث أعلنت مصر عن دعمها لبشار الأسد، في اختلاف حتى مع الموقف التقليدي لحلفائها الخليجيين في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بينما كانت تركيا الحاضن الرئيسي للمقاومة السورية المسلحة. ومع ذلك، وفي أعقاب التقارب الإيراني التركي الروسي، يبدو أن تركيا اكتفت بمناطق نفوذ أمنة لها في سورية، والتي تستخدمها لمحاربة الأكراد فحسب، من دون تهديد سلطة الأسد. لكن من المؤكد أن القاهرة لن ترضى بأي نفوذ لتركيا في سورية؛ حيث نشطت خلال الفترة الأخيرة لحث حفائها الخليجيين على دعم الأسد لمواجهة النفوذ التركي. كما صرح وزير الخارجية المصري بأن مصر لن تفرض أي شروط مسبقة على سورية لمعاودة الانضمام إلى جامعة الدول العربية.
    مع الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير، اتبعت مصر وتركيا مرة أخرى استراتيجيات متضاربة. ويُذكر أن الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير كان قد وقّع اتفاقاً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العام 2017، والذي يقضي بإعادة تأهيل واستغلال أنقرة لجزيرة سواكن الاستراتيجية السودانية المطلة على البحر الأحمر، والتي تعد أقرب الموانئ إلى ميناء جدة السعودي على البحر الأحمر، والمتاخم للمياه الإقليمية المصرية في البحر الأحمر. ومن ثم، اعتبرت وسائل الإعلام المصرية أن هذا الاتفاق موجه ضد مصر في الأساس، بالنظر إلى قرب الجزيرة من الحدود الجنوبية لمصر، والتشكك في رغبات أردوغان بدعم الجماعات الإرهابية في أنشطتها العدائية ضد مصر. وبذلك يصبح لتركيا وجود على البحر الأحمر، الممر الرئيسي الحيوي المؤدي إلى قناة السويس المصرية. وفي الوقت الحالي، ما يزال الغموض يسيطر على مستقبل الاتفاق في أعقاب الإطاحة بالبشير، حيث تحاول كل من تركيا ومصر استخدام كل نفوذهما لضمان استمرار أو إلغاء الاتفاق، إلا أن أغلب الظن أن حسم الأمر سيترك للرئيس السوداني المقبل.
    وفى شرق البحر المتوسط، استضافت القاهرة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 قمة ثلاثية مصرية قبرصية يونانية، وتجاهلت دعوة تركيا، لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، وبحث الاستغلال الأمثل لإمكانيات الغاز الطبيعي الواعدة قبالة سواحل قبرص إلى مصر. لكن الهدف الأخر للقاهرة كان تهميش وإضعاف الموقف التركي الذي لا يعترف بأن لقبرص منطقة اقتصادية حصرية تتجاوز اثني عشر ميلاً. وتطالب تركيا بأن تكون المنطقة الاقتصادية الخاصة بها في المياه العميقة شرق المتوسط، جنوباً إلى حد تلامس المياه الإقليمية المصرية. ولا تعترف تركيا باتفاقية 2013 لترسيم الحدود البحرية التي أبرمتها مصر مع قبرص، وهو ما أدى إلى احتدام الصراع والمنافسة في شرق البحر المتوسط.
    في الرد على ذلك، لجأت تركيا إلى اتخاذ إجراءات أحادية الجانب؛ حيث أعلنت عن حملة كبيرة للتنقيب عن الغاز قبالة الشواطئ القبرصية في أيلول (سبتمبر) المقبل. وعلى الرغم من إصدار الخارجية المصرية بياناً شديد اللهجة في الرابع من أيار (مايو) الماضي رداً على الإجراءات التركية، حذرت تركيا من اتخاذ أي إجراء أحادي الجانب فيما يتعلق بأنشطة تنقيب وحفر غرب قبرص، بينما حذر أردوغان شركات الغاز من التنقيب قبالة الشواطئ القبرصية، وأكدت وزارة الخارجية التركية أن أعمال الحفر تستند إلى "حقوق مشروعة".
    ينذر تصاعد نبرة العداء بين أقوى دولتين في الشرق الأوسط باتساع وتيرة الاضطرابات في تلك المنطقة المضطربة في الأصل، مما يعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر. فتركيا ومصر حليفتان تقليديتان لواشنطن منذ زمن طويل، ومع ذلك، قد يدفع النزاع القائم بتركيا إلى التقارب مع إيران وروسيا حتى في الوقت الذي تسعى فيه روسيا بنشاط إلى توثيق العلاقات مع مصر. وفضلاً عن هذا وذاك، إذا كانت واشنطن تتطلع إلى تفويت الفرصة على كل من إيران وروسيا لتقوية نفوذهما في المنطقة، فيجب عليها التوسط بين الطرفين -أو أن تعمل على الأقل على تقريب وجهات النظر بينهما، وهو ما قد يحد من خطورة احتمالات تصاعد المواجهة بين الطرفين.
    في هذا الصدد، يمكن أن تلعب واشنطن دوراً رئيسياً في إقناع أردوغان بتسوية قضية نظام الدفاع الجوي الروسي S-400 في سياق مفاوضات شاملة مع الولايات المتحدة، كما يمكن لواشنطن طرح عدد من المبادرات لحل القضايا المتعلقة بغاز شرق المتوسط، لأن هذا قد يؤدي إلى القضاء على سبب مستقبلي للتوتر بين البلدين.
    وفضلاً عن هذا، يمكن أن تساعد الوساطة الأميركية بين أنقرة والقاهرة على تهيئة الأجواء للتصدي للخطر الإيراني، فتركيا التي تشهد تقارباً مع إيران وروسيا، تعد أحد أهم الأسباب التي تعوق مشاركة مصر الفعالة في الحملة الدولية ضد إيران. ولا ترغب مصر في أن تصطف بشكل حصري إلى جانب تركيا. وكان انسحاب مصر الهادئ من تحالف الدفاع لمواجهة إيران، والمعروف باسم "الناتو العربي"، إحدى النتائج غير المباشرة للخلاف المصري التركي. ومن ثم، يجب أن يُفهم انسحاب مصر من التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط، أو استراتيجية "الناتو العربي" الذي يفضله ويدعمه الرئيس ترامب، على أنه محصلة غير مباشرة للنزاع المصري التركي وإدراك مصر لضرورة موازنة التقارب التركي الإيراني المحتمل. ونظراً لأن الولايات المتحدة حاولت مؤخرًا تجنب الانخراط في المواجهات العسكرية الكبرى في الشرق الأوسط، فلا ينبغي عليها التخلي عن اقتناص الفرصة والتوسط لتخفيف حدة الصراع الدائر بين مصر وتركيا.
    ومع ذلك، تبقى مشكلة دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين، ومن المؤكد أنها ستكون أكثر القضايا تعقيداً، ولن يتسنى حلها من خلال الوساطة. فمصر ترى أن حزب أردوغان وجماعة الإخوان وجهان لعملة واحدة، كما أن الرئيس التركي لا يريد نجاح نموذج السيسي الانقلابي في تركيا، خاصة بعد الانقلاب الفاشل الذي حدث في تركيا في العام 2016. ومن المرجح أن يؤدي إعلان الرئيس ترامب مؤخرا عن تأييده لإدراج جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، إلى جانب النقاش الأخير في الكونغرس حول هذه المسألة، إلى ممارسة المزيد من الضغوط على تركيا. وما يزال علينا الانتظار لنرى ما ستسفر عنه تلك الضغوط.

*محمد ماهر: صحفي وباحث مصري مقيم في الولايات المتحدة.
*آيرينا تسوكرمان: محامية ومحللة أميركية ومقرها نيويورك. كتبت بشكل مكثف حول السياسة الخارجية وقضايا الأمن لمجموعة متنوعة من مراكز الأبحاث المحلية والدولية وترجمت كتاباتها إلى العربية والفارسية والإسبانية والفرنسية والبرتغالية والألمانية والإندونيسية.