تصور التيار السلفي-الجهادي الجيوبولتيكي لآسيا الوسطى

يعد حقل "الجيوبوليتيك" من أهم المداخل النظرية لفهم العديد من تفاعلات العلاقات الدولية والسياسات الإستراتيجية للدول. وقد اكتسبت منطقة آسيا الوسطى، أو المنطقة الأوراسية، أهمية قصوى في هذا الحقل، منذ أن طرحت النظرية "الماكندرية"، فيما عرف بنظرية "القلب القاري"، وهو ذاته المدخل الذي طرحه الأميركي "زبيغنيو بريجينسكي" في كتابه "أحجار على رقعة الشطرنج"، والذي يدلل على أهمية المنطقة في رسم معالم السياسات والمصالح الدولية.

اضافة اعلان

على أن الجيوبولتيك يربط السياسة، أو السلوك السياسي للدولة، بالجغرافيا، فإنه ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وأحداث الحادي عشر من أيلول برز تحول في عموم حقل العلاقات الدولية، وفي مسلمة أن "الدولة هي الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية"، إذ غدت الحركات السياسية-الاجتماعية، والتنظيمات العنفية من الفواعل الأساسية للعلاقات الدولية، اضافة إلى الشركات المتعدية الجنسية، وبعض المنظمات غير الحكومية العالمية.

وعلى ذلك، فإن البحث في أهمية آسيا الوسطى في تصور التيار السلفي- الجهادي، الذي تعد القاعدة أهم تنظيماته (دون أن يتم الخلط بين التيار والتنظيم) خاصة وأن المنطقة تعد من أهم البقاع العالمية في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، يعد موضوعاً أساسياً على المستويين النظري والعملي. ويبدو المرجعان الاساسيان هنا: "أيمن الظواهري"، الساعد الأيمن لأسامة بن لادن، وخاصة كتابه "فرسان تحت راية النبي"، الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط على حلقات في كانون الأول 2001، وكتاب "أبو مصعب السوري"، "المسلمون في وسط آسيا ومعركة الإسلام المقبلة"، والذي كتبه في تشرين الثاني 1999، ونشرته عدة مواقع إسلامية.

وفي حين أن "أيمن الظواهري" معروف، فإن أبو مصعب السوري، هو من المنظرين السلفيين الجهاديين، وقد كان على أثر سقوط نظام طالبان، قد تفرغ للبحث والتأليف، وللبحث في "مراجعة التجربة الجهادية، واستكشاف أساليب وأنماط للحركات الجهادية" كما يقول، ولم يعمل في النشاطات الحركية، وفقا لتصريحاته، حتى أصدرت وزارة الخارجية الأميركية عام 2004، مذكرة اعتقال باسمه، ومكافأة قدرها خمسة ملايين دولار، وصفها "السوري" بـ"التافهة".

آسيا الوسطى ملاذ آمن:

يتطابق تصور كل من "الظواهري" و"السوري" حول وجود معركة عالمية بين التحالف "الصليبي-الصهيوني" والإسلام وممثليه، وهم الجهاديون برأيهما. ومن هنا، فإنهم ينطلقون، ويبدو أن هذا يرتبط بتصور معظم التيارات السلفية-الجهادية، من ضرورة البحث عن ملاذ آمن لتيارهم، ليكون نقطة انطلاق في المعركة المستمرة والممتدة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل وغيرهما ممن يعادي العالم الإسلامي.

منطقة آسيا الوسطى، في تصور هذين القياديين في التيار، هي منطقة انطلاقة "الجهاد" نحو "قلب العالم الإسلامي" (الشرق الأوسط)، والذي يصفه الظواهري بالقول: "هو يمثل ميدان المعركة الحقيقي، ومسرح العمليات الكبرى، وقاعدة الإسلام". ويؤيده "أبو مصعب السوري" في هذا الاتجاه بقوله: "ضرورة تمركز كوادر العمل الإسلامي عموما جنبا إلى جنب في المرحلة الحالية، إلى جانب حركات الجهاد في هذه المنطقة [آسيا الوسطى] للجهاد فيها، ومن ثم الانطلاق للشرق الأوسط".

وعلى ذلك، يلاحظ أن المنطقة الأوراسية هي ذات أهمية مرحلية، قبل نقل المعركة منها إلى ما يصفه الظواهري بـ "قلب العالم الإسلامي"، وذلك من خلال تشكيل "حزام إسلامي مجاهد"، على حد وصف الظواهري أيضاً، والذي يمكن أن يتشكل "بدعم تجربتي الشيشان وأفغانستان باليد واللسان"، لكن دون توريطهما ضغطاً أو ضرباً، نظراً للظروف العديدة المحيطة بهما، كما يقول الظواهري.

فالظواهري يرى أن حالتي الشيشان وأفغانستان (وبوجود حركة تحريرية جهادية) فيهما تهديد حقيقي للمصالح الأميركية، وذلك لوجود البترول بكميات كبيرة في المنطقة، ووجود القوات الأميركية في آسيا الوسطى. فهو يرى أن نجاح تجربة الشيشان في "تحرير القوقاز" سيشكل "بؤرة جهادية تؤوي الآف المجاهدين من أركان العالم الإسلامي، بشكل يوصلهم إلى بحر قزوين الغني بالبترول، ويجعل بينهم وبين افغانستان جمهورية تركمانستان المحايدة فقط، فيتشكل الحزام الإسلامي المجاهد في جنوب روسيا، الذي يصل شرقاً إلى باكستان، وشبابها المجاهد في كشمير، وجنوباً وغرباً إلى إيران وتركيا، المتعاطفتين مع مسلمي آسيا الوسطى". وهو يرى في ذلك تفتيتا لروسيا "حليفة الولايات المتحدة"، كما يصفها، "في مواجهة الصحوة الجهادية"، وهو يرى أن هذا هو سبب عدم تدخل الولايات المتحدة لوقف "جرائم" روسيا في الشيشان.

تصور "أبو مصعب السوري" لا يختلف كثيراً عن تصور "أيمن الظواهري"، وإن كان يرى بوجود بوادر الحركة الجهادية في أوزبكستان. إذ يرى أن سيطرة الجهاديين، أو إيجادهم لملاذ آمن، في المنطقة الممتدة من بنغلادش إلى شمال الهند، وكشمير، وباكستان، وافغانستان، وآسيا الوسطى مع مسلمي تركستان، إلى القوقاز والأورال، هي مساحة ذات امتداد جغرافي، وفيها مسلمون، مما يجعلها ذات ميزة لنشاط "الحركة الجهادية".

وإضافة إلى هذه الميزة، فإن "أبو مصعب السوري" يضيف مجموعة من الأسباب العقيدية والدينية لتبرير أهمية المنطقة، كبشائر في الاحاديث النبوية عن النصر القادم للإسلام من المنطقة، وكذلك يضيف أسبابا سياسية-استراتجية، إذ يعد المنطقة نقطة قوة لأهل الإسلام مقابل نقطة ضعف "للتحالف الصهيوني-الصليبي"، على عكس "المحاور الأخرى" التي تتسم بتفوق "التحالف". ويرى "السوري" ايضا، بالكثافة البشرية، والطبيعة الجغرافية مزايا اضافية، حيث ستشكل المنطقة، برأيه، "قلعة متينة للحركة الجهادية"، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الموارد الاقتصادية في المنطقة، مما يمنح "الحركة الجهادية دعماً مالياً".

يلاحظ مما سبق أن فكرة التحول في طبيعة العلاقات الدولية من خلال تحول الفاعلين الرئيسيين، يظهر أن التيار السلفي-الجهادي لا يشكل مجرد حركات احتجاجية، بل هو تعبير عن تيار "عبر قومي"، متجاوز للحدود، وله رؤاه الاستراتجية. ولذا، فمن الخطأ عدم التعامل معه خارج هذا التصور.

والتيار السلفي الجهادي يسعى في حركته إلى البحث عن ملاذات آمنة لتكون قواعد لإنطلاق نشاطها "الجهادي"، ففي وجود مثل هذا الملاذات تفسير للطبيعة الخلاصية للتيار، بالمراوحة ما بين "العدو القريب" و"العدو البعيد".

ويلاحظ أيضاً أن التيار السلفي-الجهادي، وباعتباره من الفاعلين في العلاقات الدولية المعاصرة، يسعى إلى خلق ملاذات آمنة في مناطق تتميز بوجود سلعة استراتيجية مثل البترول (العراق، والسعودية، وآسيا الوسطى) لتكون محطات للبحث عن أراض آمنة، وتشكيل ما يشبه الجبهة الجيوبولتيكية التي تحاصر الوجود والمعالم الأميركية. وهو ما يعني بالضرورة أن قضايا شعوب تلك المناطق تختلف عن أجندة التيار السلفي الجهادي، ولعل الشيشان أبرز مثال على ذلك.