تطوير لا تثوير

 

بعيداً عن حديث المشككين الذين اعتبروا أن الإجراءات الاقتصادية الحكومية المتخذة أخيراً جاءت بفعل ضغط الشارع فقط، فإن ما جرى، هو فعلياً، مبادرة إيجابية تجاوبت مع رغبات الناس وشعورهم بأن نار الغلاء باتت تلهب ظهورهم وبأن لا قدرة لديهم على تحمل المزيد. بل إن الأهم هو أن إجراءات الحكومة، والتي عاكست برنامجها المالي وفلسفتها الاقتصادية، نزلت عند رغبة جلالة الملك في أخذ زمام المبادرة على أساس أن الخطط وُضعت لخدمة المواطنين وليس العكس على الإطلاق.

اضافة اعلان

ما لمسه المواطنون في الأيام الأخيرة في القرارات وأثناء المسيرات وعبر أثير الإعلام يؤكد النهج الجديد في تعاطي السلطة مع المطالب الشعبية على كل المستويات الاقتصادية والأمنية والإعلامية، ويجزم بأن الأردن يسلك طريق الإصلاح الاقتصادي الذي تنشده الطبقات الفقيرة والمتوسطة من المواطنين، بغض النظر عن الحكومات، مثلما أنه سيسلك درب الإصلاح السياسي الضروري لتكامل عملية الخروج من الأزمة مع النهوض.

وإذا كان الإصلاح الاقتصادي الذي ظهرت تباشيره في الأيام الأخيرة مبشراً بالخير، فإن على المواطنين أن يدركوا أن طريقه ليست مفروشة بالورود، فمقابل كل دعم للأسعار هناك فاتورة يجب أن تدفع في مكان آخر، ومقابل كل امتناع عن رسم هناك محفظة ستتضخم، ولا فرار من دفع مترتباتها حتى ولو بآجال طويلة.

لذلك لا بُدَّ من الهدوء في التعاطي مع مسائل دقيقة وتحديد المطالب تحت سقف الممكن كي لا يتحول تجاوب الحكومة مع المطالب الشعبية مزايدةً شعبوية تلجأ إليها للجم بعض المبالغات التي لا تأخذ في الاعتبار الحقائق الاقتصادية والأرقام، وحدود قدرات دولة ذات موارد محدودة. لكن هذا التعاطي الهادئ مع موضوعة الإصلاح يجب أن يكون مصحوبا بتقديم النموذج والقدوة من خلال ترشيد حقيقي تمارسه الحكومة لنفقاتها ونفقات مؤسساتها، وبحيث يكون هذا الترشيد بائنا لا تخدشه تجاوزات تثير شكوك الناس في جدوى الطرح الإصلاحي.

يسبق جلالة الملك كل المعنيين إلى فرض الإصلاح الاقتصادي بما يلائم الناس قبل مؤسسات البحث والنقد، وفي ذلك رسالة مفادها أن الأردن يستطيع أن يرسم طريقه الخاص في الإصلاح بعيداً عن الوصفات الجاهزة، وأن ورشة الإصلاح لن تقتصر على الاقتصاد بل ستشمل السياسة أيضاً. لكن الجزء الثاني يحتاج إلى الانطلاق من مبدأ أن التغيير يحصل بالتطوير وليس بالتثوير، وبأن الانتقال المتدرج في الإصلاح هو الضمانة للاستقرار. والأكيد أن ورشة الإصلاح السياسي لن تُملى بقرارات بل ستكون نتيجة حوار وطني شامل تشارك فيه كل أطياف المجتمع السياسي والمدني الأردني، بعيداً عن أي ضغوط قد تفسد النيات الطيبة، أو استعجال قبل الأوان يفضي إلى مجابهة بالحرمان.

لا بديل عن تلازم الإصلاح الاقتصادي مع الإصلاح السياسي، لكن لا بديل أيضاً عن الاعتراف بسرعات مختلفة تقدِّم المُلِحَّ على الضروري، وتتيح إنضاج الظروف الموضوعية لإصلاحات أساسية يجب أن تنجم عن قناعة كل شرائح المجتمع الأردني بالخطط المستقبلية، وعن إيمان هذا المجتمع بأن مصالحه وتطلعاته هي في أيدٍ أمينة لم تخيب آماله سابقاً، ولن تخيبها مستقبلاً. فحياة المواطنين ومستقبل الأردن كانا دائماً.. أولاً، وسيبقيان.. أولاً.  

[email protected]

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا