"تعرف تحمل هموم.. تعرف تحمل كورونا"

على مواقع التواصل الاجتماعي، علق مئات الآلاف على فيديو مؤثر جدا لممرض عراقي، يغني لمسنة مصابة بفيروس كورونا في أحد المستشفيات: «يا أمي يا أم الوفا»، مستعينا بجميع ما في العربية من مفردات إنسانية تساعده في أن يتشارك معها هموم اللحظة وهواجس القادم.اضافة اعلان
الأغنية مشهورة على نطاق عربي واسع، غناها المبدع سعدون جابر منذ أكثر من ثلاثة عقود، وحفظناها من بعده عربونا لامتناننا لأمهاتنا اللواتي قدمن لنا دائما ما لا يستطيع أحدٌ آخر غيرهن تقديمه.
كان ذلك في السياق الطبيعي، وفي الاشتباك الموضوعي بين الأبناء والأمهات.
لكن، في حقبة كورونا تبدو الأمور أكثر حميمية، وأكثر إلحاحا على الوعي لأن ننتبه جيدا إلى الذين كانوا معنا خلال جميع الصعوبات، وقادونا من أيدينا في طرقٍ لم تكن سالكة دائما.
الأمهات هنّ روائح الجنة، والكتف الحاني الذي نرمي أحمالنا عليه. في كل الأحوال لا يجدر أن يصبن بأي أذى. لا يجدر بهن أن يسعلن ولا أن تباغتهن الحمى، أو أن يستلقين من تعب على أسرة في المستشفيات. فكيف نصدق إذا بأن كورونا اللعين يمكن أن يباغت حضورهن الملائكي، وأن يجبرهم على العزلة والوحدة والحزن، ناهيك عن المرض والألم!.
أنا لا أكتب عن ذلك الممرض بالذات، بل أكتب عن الأمهات اللواتي اضطررن إلى اختبار المرض اللعين الذي بتنا ننظر إليه كما لو أنه ورمٌ سرطاني غير قابل للشفاء اذا ما تمكن من تلك الأجساد التعبة.
أكتب عن محزونين عايشوا المرض واختبروه، وواجهوا قسوته وحيدين في غرف العزل الباردة، من غير أن يصطبحوا بوجوه أحبتهم التي اعتادوا عليها.
وأكتب أيضا..
عن أطباء وممرضين وطواقم طبية، يعملون في المرافق الصحية المختلفة كما لو أنهم معتقلون فيها، فواجبهم المهني والأخلاقي يحتم عليهم أن يصلوا الليل بالنهار ساهرين على رعاية مرضى كثيرين، بعضهم مصابون بكورونا، وآخرون يعانون أمراضا مختلفة، غير أن الخطر دائما يحدق بهذه الطواقم التي تضطر إلى التعامل مع الجميع.
نفكر إذن بالطبيب الابن، والممرض الابن، الذي يقضي معظم يومه في المستشفى، ونتساءل: كيف يتصرف عندما يعود إلى أمه وأبيه؟ نفكر أيضا بالزوج أو الأب اللذين قد يخالطان مئات الحالات من المرضى يوميا، قد تكون بعضها إصابات مثبتة أو محتملة بكورونا، ما الذي يفعله حين يعود إلى بيته؟ ألا يخطر بباله أن يقبل زوجته، أو يحضن أطفاله؟ ألا يتمنى أن يشاركهم مائدتهم على العشاء؟
يا إلهي! إنها معادلةٌ صعبةٌ جدا، بين أن تكون ملتزما بضميرك المهني، وبين أن تكون إنسانا منطلقا وملتزما بالاشتراطات الاجتماعية الكثيرة المفروضة عليك في كل خطوة.
بين المهنة والحياة، تعلمنا دائما أنه لا فواصل حقيقية يمكن أن تجذّر الفصل بينهما. ففي النهاية من يمثلهما هو الإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى للاتصال والانفصال.
لكن، وفي زمن كورونا يبدو أن الطبيعة وضعت اشتراطاتها المنطقية، والتي نأسف للقول بأنها منطقية، لتفصل بين المهمتين.
ثمة من اختاروا مهنتهم فقط. ثمة من اختاروا علاقاتهم الاجتماعية ودوائرهم الخاصة فقط. بينما آخرون قرروا أن يجترحوا طرقا جديدة لكي يكونوا إنسانيين أكثر مما ينبغي، واجتماعيين بكامل طاقاتهم، وبارّين بقسمهم المهني وبكل ما تقتضيه أخلاقيات المهنة.
لهؤلاء نقول: نحن نغبط إنسانيتكم اللا متناهية، وقدرتكم غير المحدودة على العطاء والعمل. وجودكم بيننا سيكون دائما قيمةً جليلة، ودروسا سنذكرها إلى الأبد.
الممرض العراقي ما يزال يغني لمرضاه، ونحن ما نزال نستمع إلى صوته الشجي.
هو لا يغني فقط، هو يجترح طريقا فذا نحو قلب الإنسانية، ويدعونا جميعا لنسير خلفه في هذا الطريق.