تعليمات السلامة!

شيء غريب أن تضطر طواقم رحلات الطيران في أي مكان في العالم، إلى شرح تعليمات السلامة قبل الإقلاع، سواء بالطريقة القديمة المعتمدة على حركات المضيفين والمضيفات، أو عبر وسائل البث الإلكتروني. والغريب في هذا الأمر ليس ما يقوم به المسؤولون عن الرحلة، بل لأن الذي يفعلونه ويأخذ حيزا زمنيا ولو قصيرا، لا يلتفت إليه الركاب كثيرا أو لنقل لا يأخذونه على محمل الجدية في غالبية الأوقات!اضافة اعلان
ربما حتى هم، المضيفون والمضيفات، ليسوا مقتنعين كثيرا بجدوى ما يقومون به لأنهم يدركون في قرارة أنفسهم بأن لحظة الجد، لن يتذكر أحد كلمة واحدة من دفتر التعليمات، ذي الطباعة الأنيقة وصور الشرح الملونة.
هكذا هي الحياة بصورتها المختزلة بالنسبة لنا جميعا، حتى الذين يعتقدون أنهم ملتزمون بتعليمات السلامة من الخطر حرفيا، ويشيعون ذلك بين الآخرين!
هكذا هي حياتنا التي لو أصابتنا بمفاجآتها غير الحلوة، ننسى في أقل من لحظة ما علينا أن نفعله. وإن تذكرنا لا نعرف كيف نفعله. لأننا ببساطة نتحرك وفق موجات عصبية وعاطفية تغلب الأرقام والحسابات والتوقعات.
نخطئ لو نعتقد أننا مسلمون من العاقبة، لأننا تعلمنا مبادئ الخروج من دوائر الغلط، بالورق والقلم. فالنتائج ولو أنها تبدو أقدارا مكتوبة، هي بالمحصلة نهايات أفعال قمنا نحن وبكامل وعينا بصناعتها وتركيبها، حرفا حرفا وكلمة كلمة. وحين تصدمنا الحلقة الأخيرة بنهايات غير سعيدة، نجد أنفسنا نلوم الأقدار باستسلام متواطئ مع الضعف. أو أن بعضنا يمتلك الشجاعة ويفتح على نفسه بوابة اللوم والندم!
الكارثة الحقيقية هنا، هي أن تعود بنا الحكاية إلى أولى البدايات من جديد، سانحة لنا الفرصة وأحيانا الفرص، لنعيد تركيب الجمل كما ينبغي لها أن تصاغ، فننقذ قلوبنا المتألمة من القهر، ووجداننا المتخم بالجراح، وعقولنا المصابة بالدوار. تمنحنا الفرصة لكي نثبت أننا كائنات قابلة للتعلم والاكتساب، لا تسوقها الفطرة وحدها في اتخاذ القرارات. كائنات تحترم تعليمات السلامة بحق، تجاه إنسانيتها واحترامها لذاتها، فتظفر بالنجاة ولو مرة من ضمن عشرات المرات. لكن وللأسف، وكأن جاذبية التكرار، أقوى بأضعاف من خفة التحرر. فنحن نؤمن بدون أن نطلق إيماننا دستورا معلنا، بأن التكرار الذي يعلم الشطار، بما أنه يشد أقدامنا إلى الأرض، بدون أن نقع كثيرا، أسلم ألف مرة من تجربة التحليق فوق الأسطح، مع احتمالية السقوط ولو مرة!
لذلك، فحتى الهدوء الذي يجب أن يواكب لحظات الخطر، كما في مثال الطائرة وتعليمات السلامة، ليس قريبا من الواقع ولو بقدر بسيط. فلا الخائف سيجلس مستكينا حافظا درسه مطبقا له بالشكل الذي يظهره فيديو التعليمات المصور. ولا المرتبك في الحياة عموما سيستكين للقرار العاقل، بالشكل الذي يتطلبه المنطق.
نحن نخاف ونقطة! كما نخاف على حياتنا أن نفقدها في الجو، نخاف على العلاقات والمسميات والقسمة والاعتياد، أن تضيع منا ونحن واقفون على الأرض، متمترسون فوق قواعدنا الثابتة.
لا تعليمات ستسلمنا من الهبوط الاضطراري إذن، طالما لن نعترف أن الخطر الأول والأخير هو من الخوف من الوقوع والتيه والوحدة، حتى لو كان مجرد فكرة بعيدة، في فضاء واسع على الأرض، يتسع لأكثر من احتمال.