تعليم القانون: الحقوق في جامعة هارفارد

عندما التحقت بالجامعة كانت دراسة القانون والفلسفة تتنافسان على اهتمامي، وقد تغلب حبي للفلسفة على ميلي لدراسة القانون، ما جعلني إلى اليوم مهتما بالثقافة القانونية، وقراءة الكتب والمقالات القانونية التي تدخل في الصميم. في بلادنا يسمون الكلية التي تدرس القانون كلية الحقوق، مع أن القانون أعم من ذلك لأنه يتناول الحقوق والواجبات وموضوعات كثيرة أخرى. يبدو من التاريخ العربي الإسلامي أنه لم يكن مطلوبا تمثيل المشتكي أو المشتكى عليه بمحام أمام القاضي الذي يختاره الخليفة ليقضي بين الناس بالعدل، ولكن الوضع تغير تماما بعد الاتصال بالغرب، فصار لدينا كليات للحقوق/ القانون ومحامون يمثلون أطراف القضية أمام القاضي أو القضاة في المحكمة ذات العلاقة من حيث الدرجة أو الموضوع. يوجد في الولايات المتحدة مئات كليات الحقوق/ القانون في الجامعات الحكومية، والخاصة (الجديدة)، والأهلية مثل هارفارد وييل، وكلمييا، وبرسنتون، ووليم وماري، وشيكاغو... كما يزداد عدد الطلبة الملتحقين بها سنة بعد سنة أخرى نتيجة التطور الاقتصادي والاجتماعي، وبخاصة في المدن الكبيرة الجائعة دوما إلى المحامين. ومعظم كليات الحقوق/ القانون يعمل نهاريا ومسائيا كما تتشابه في مساقاتها وبرامجها دون أن يعني ذلك اختفاء التنوع فيما بينها. إن الحق يبقى للأستاذ في اختيار ما يشاء منها. أما المدة المعيارية اللازمة للتخرج في القانون فهي ثلاث سنوات بعد البكالوريوس واختبار قبول. وتضع سلطات تعليم القانون الثلاث المعايير الأساسية للقبول في كليات القانون، ومدة المساق، والحد الأدنى لأعضاء هيئة التدريس... وهذه السلطات هي: • جمعية المحامين الأميركية: American Lawyers' Association • ونقابة المحامين الأميركية: American Bar Association • ونقابة الكليات / المدارس التي تعلّم القانون: Association of American law schools وكلية القانون/ الحقوق في هارفارد هي أقدم الكليات من حيث الاستمرار منذ نشأت سنة 1817، ومع أن الكلية في جامعة وليم وماري نشأت قبلها (1779) إلا أنها أغلقت في أثناء الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر. وتتفوق كلية القانون/ الحقوق في هارفارد على بقية الكليات في عدد الأساتذة المتفرغين، وفي مكتبتها التي تضم أكثر من مليون كتاب في القانون. يأخذ جميع الطلبة في السنة الأولى في كلية القانون في جامعة هارفارد المساقات نفسها وهدفها تعريف الطالب/ة بطبيعة نظام القانون العام: Common law system الموروث عن بريطانيا. وهي السنة الأصعب على الطلبة وبخاصة للاختلاف الجذري بين أساليب التدريس والدراسة في الكلية، عما ألفه الطالب/ة في المدرسة. ومع ان عدد الساعات الصفية في الأسبوع قليلة، فقد لا تزيد على 14، إلا أنه يفرض على الطالب/ة ساعتين أو ثلاث من الاستعداد والمراجعة مقابل كل ساعة صفية. وهو معنى الساعة المعتمدة في أميركا الذي أخذنا منه المغلف وألقينا رسالته في سلة المهملات. ومع أن الساعات الصفية في السنة الثانية أثقل، إلا انها تبدو للطلبة أخف من متطلبات السنة الأولى نتيجة ما اكتسبوه من ثقافة وخبرة تعليمية في السنة الأولى. في هذه السنة يتاح للطلبة اختيار المساقات التي يرغبون التخصص القانوني، بما في ذلك مساق تخصص في المحاسبة العامة التي أصبحت لازمة نتيجة التطور الاقتصادي والضريبي. وإذا نجح الطالب/ة في السنة الثانية فإنه يمكن أن يعثر على وظيفة مؤقتة في مكتب للقانون في مدينة كبيرة. وفي السنة الثالثة يصبح على الطالب/ة اختيار تخصصه النهائي. ويفرض عليه ورقة بحث للأستاذ والنجاح في الامتحان النهائي. كما يسمح له في هذه السنة بأخذ مساقات في كليات الآداب والعلوم إذا رغب في ذلك، لتعزيز معرفته القانونية. وقد يستطيع بعضهم الحصول على درجة جامعية أخرى في الوقت نفسه. ومع اقتراب الإمتحانات في نهاية العام تشتد الحاجة إلى الدراسة والمراجعة، ويشكل الطلبة جماعات دراسية لمناقشة ملاحظاتهم، ومراجعة الأسئلة السابقة في الموضوع. ويبلغ التوتر والقلق أقصاهما وبخاصة عند الطلبة في سنة التخرج الذين يهيئون أنفسهم لعلامات عليا وليس لمجرد ناجح فأنت ترى الطلبة يأكلون ويشربون ويتنفسون القانون ويفكرون فيه وهم نائمون لا يحررهم منها سوى النجاح والعطلة السنوية التي تمتد ثلاثة أشهر. ويركز طلبة هارفارد على المستوى لأنه يفتح لهم فرصا وأفاقا واسعة للعمل في العطل الصيفية في مكاتب المحاماة، وبأفضل المكاتب بعد التخرج. لا يسمح للذين يرسبون بإعادة التسجيل في الكلية لكن عددهم قليل، ويستطيعون إذا أرادوا التسجيل في كليات أخرى والبدء من جديد. الجامع المشترك بين جميع كليات الحقوق في أميركا هو المنهج/ الأسلوب السقراطي في التعليم والمناقشة والإمتحان الشفهي. ومن ذلك – مثلا – أن يُطلب من الطالب/ة أولاً: تلخيص قرار قضائي؛ ثم يسال ثانياً: فيما إذا كان يوافق على حجة القاضي، ثم يتصرف الأستاذ ثالثاً: وكأنه وكيل الشيطان بطرح سلسلة من الأسئلة على الطالب/ة لإجباره على الدفاع عن حجته. أما هدف هذا التمرين الشائع في كليات الحقوق الأمريكية فتعليم الطالب/ة التفكير الناقد، واستخدام المنطق، والعقل لتمكينه من إبتكار حججه، وفي الوقت نفسه العثور على الفجوات والثغرات في مواقفه. يحصل الطلبة العشرة الأوائل في الكلية على عضوية مجلس المحررين لمجلة هارفارد في القانون Harvard law Review . ويتنافس بقية الطلبة على عضوية مجالس الست عشر مجلة الباقية، التي تدور كل منها حول موضوع معين مثل الحقوق والحريات المدنية، والعدالة العرقية والأثنية، والقانون والبيئة، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي، والقانون والجندر، والقانون والسياسة العامة، والقانون والتكنولوجيا، والرياضة والقانون الدولي، والتشريع، والقانون اللاتيني، والأمن القومي والقانون، والتفاوض والقانون ، والقانون والبزنس. لقد مر على نشر المجلة الأولى 130 عاماً، يكتب المقالات الرئيسية فيها علماء القانون والمحامون المتميزون. ومع أنها مجلة طلابية دورية، إلا ان من المدهش الاعتراف العالمي بها كمجلة أولى في القانون في العالم مـع أن الطلبـة – وليس الأساتذة – هم الذين يحررون جميع هذه المجلات بالكامل، بعيدا عن رقابة هيئة التدريس، وهم – كذلك - يشاركون في محتواها. وبالإضافة إلى المجلات القانونية الطلابية الكثر في الكلية يوجد أكثر من تسعين منظمة طلابية نشطة فيها: قانونية واجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ... كما يمثل الطلبة على المستوى الجامعي بمجلس الخريجين. ويعين الطلبة المتفوقون في مجلس يدير نظاما من التدريب والمرافعة... يشارك فيهما بقية الطلبة وكأنهم يترافعون في محكمة. في السنة 2006 صوتت هيئة الأساتذة في الكلية على برنامج جديد للسنة الأولى يقضي بإعلاء شأن موضوع حل المشكلات (Problem Solving) والقانون الإداري، والقانون الدولي فيها، وتنفيذه على مراحل. كما جعلت الهيئة في سنة 2006، تقدير الخريجين من ثلاثة مستويات: درجة الشرف؛ ناجح؛ ناجح ضعيف (Low pass) كما هو معمول به في كليتي ييل وستانفورد. وفي سنة 2017 كشفت الكلية عن لوحة معدنية تعترف فيها وبصورة غير مباشرة بالدور الذي أدته العبودية في التاريخ كتب عليها: "تكريما للمستعبدين الذين أدى كدهم لخلق ثروة جعلت من الممكن تأسيس كلية هارفارد للقانون وبمناسبة ذكراهم نرجو اتباع أعلى مثل القانون والعدل". لا يعني هذا كله أن كلية القانون في هارفارد هي الأفضل في أميركا فقد احتلت المرتبة الثالثة بعد كليتي ييل وستانفورد للقانون سنة 2013 . إن كلا منها ينافس الأخرى على المرتبة الأولى ولكن سمعة كلية هارفارد الدولية هي الأعلى في أميركا وفي الخارج وتتقدم عليهما فيهما. حسب قانون ولاية ماسوستش يمكن لكلية القانون تحت مراقبة نقابة المحامين تمثيل المدعى عليهم المعوزين مجاناً في المحاكم الأدنى. تتنافس مكاتب المحاماة الكبرى في الولايات المتحدة على خريجي هذه الكليات بمجرد تخرجهم لتوظيفهم أو إشراكهم فيها، بل ويتم أحياناً مقابلة هذه المكاتب الطلبة قبل التخرج، لكن كثيرا من الخريجين يفضلون العمل في الإدارات العامة أو في البلديات، أو في منظمات المجتمع المدني. غير انه يترتب على الخريج قبل مزاولة مهنة المحاماة اجتياز امتحان الولاية التي يرغب العمل فيها، ولأن متطلبات العمل فيها تختلف عن دراسة القانون في الكلية لأن لكل ولاية قوانينها الخاصة فإنه يضطر لأخذ مساقات تحضيرية يقدمها محامون محليون. وإذا نجح المتقدم للوظيفة في الامتحان، فإن الجهة ذات العلاقة تتحرى عن سلوكه الأدبي والأخلاقي ليتم تعيينه ويحصل على حريته في الممارسة. تفرض خمس من الخمسين ولاية أميركية على الخريج الناوي العمل محام فيها، العمل أولا كاتبا في محكمة لمدة خمس سنوات. ولأن الخريج يمكن أن يعمل في أي ولاية فإن متطلبات القانون لا تستطيع التركيز على ولاية معينة، وللتغلب على هذه المشكلة تم تبني أسلوب الحالة في التعليم (Case method) الذي يركز على قرارات المحاكم باعتبارها تمثل الصورة الحقيقية لعلم القانون في إطار القانون العام. وهكذا نشأت كتب ومجلدات لكل موضوع في قرارات المحاكم، يتعلم الطالب/ة من خلال الاطلاع عليها التحليل، والمقارنة، والتقييم، وإدراك القواعد والمبادئ التي استندت إليها المحكمة في هذا القرار أو ذاك. تلك القرارات القضائية التي تتحول إلى تشريع نشأ وتطور في خمسين مختبراً / ولاية. أما الهدف النهائي لهذا الاطلاع فهو صقل البصيرة القانونية والتفكير كمحام عند الخريج. بل أن الطلبة في الكلية يتعلمون التعاون مع بعضهم البعض، وليس التنافس ضد بعضهم البعض، لأن النجاح المهني متاح للجميع الذين يعملون. المرضى العصبيون فقط هم الذين يعملون للتفوق على أقرانهم. يكون خريجو هذا النظام الخاص – عادة - ذوي عقول قوية وصلبة وشاكّة، وينبوعية. لقد خدم ستة عشر خريجاً من كلية هارفارد في محكمة العدل العليا للولايات المتحدة، أي أكثر من خريجي أي كلية أخرى. إن خمسة من القضاة الحاليين خريجون منها، وأن الرئيس أوباما كان أحد خريجيها. لعلّ جامعة هارفارد هي أكثر الجامعات الأميركية حصولاً على التبرعات، بسمعتها أولاً، ولأنها غير ربحية ثانياً، ولرؤسائها الماهرين في جمع الأموال لها، فآخر رئيسة للجامعة – دروفاوست - التي استمرت كذلك لمدة أحد عشر عاما، جمعت تسعة مليارات دولار للجامعة في آخر حملة لها، كان أحدها أكبر تبرع في التاريخ ومقداره 400 مليون دولار دفعة واحدة من البليونير جون بولسون. إن القانون أداة مهمة في تشكيل المجتمع والاقتصاد والتعليم. وبمتابعة الطالب/ة لذلك فإنه يمتص فقه القانون. وبدوره يتطور الخريجون والمحامون والقضاة. وفي أميركا بوجه خاص يترشحون وينجحون في الانتخابات المحلية، والولائية، والفيدرالية، وحتى في الرئاسية، فأكثرية أعضائها محامون. وبما أن القضاة في أميركا يختارون بعد منتصف العمر، فإنه ليس ثمة فرصة لخريجي وخريجات كليات القانون للعمل في سلك القضاة سريعاً، مع ان عدداً كبيراً من الخريجين والخريجات يعمل كاتباً لسنة أو اثنتين أو خمس عند قضاة متميزين ليصلوا فيما بعد مرتبة القضاء. كما يلجأ آخرون من الخريجين والخريجات إلى العمل في التدريس في كليات القانون. لقد كشف ترامب عن ألاعيبه القانونية وألاعيب مؤيديه من المحامين، ومن ذلك أن جولياني الذي انضم أخيراً إلى مجموعة محاميه اختلق فكرة قانونية أو على الأصح لا قانونية لا تخطر إلا على بال ابليس وهي أنه إذا أدين ترامب بعرقلة العدالة، فإنه يستطيع كرئيس للدولة، أن يعفو عن نفسه، ويبقى رئيسا. وفي الختام، فإنه يؤسفني الادعاء أنك تستطيع بالمال أن تشتري كل محام في أميركا، بل أن رالف نادر قال في كتاب له: أنك تستطيع أن تشتري الكونجرس به.اضافة اعلان