تغيير قواعد اللعبة فلسطينياً

لا ينبغي النظر إلى الهجوم الدبلوماسي الفلسطيني الراهن في الأمم المتحدة، الخاص بطلب العضوية لدولة مستقلة، على أنه كتاب من فصل واحد، أو قصة قصيرة يمكن التهام سطورها في جلسة قراءة سريعة، وإنما يستحسن التعاطي مع هذا الحدث على أنه رواية طويلة مفعمة بالوقائع والشخوص والحوارات التي لا تنجلي معانيها إلا مع الانتهاء من طيّ الصفحة الأخيرة.اضافة اعلان
وأحسب أن أشد المتفائلين بخاتمة هذه الجولة التي ستجري بعد أيام معدودات على خشبة المنظمة الدولية، سواء أكانت الجمعية العامة أو مجلس الأمن، لا يتوقع الظفر بنتيجة حاسمة، تحدث فرقاً نوعياً في مكانة القضية الفلسطينية، وتقلب الواقع القائم رأساً على عقب، حتى وإن تم "جلب الذئب من ذيله"، وتحقق الاعتراف من جانب أغلبية الدول الأعضاء بفلسطين كدولة كاملة العضوية في المنظمة الأممية.
ذلك أنه حتى مع مثل هذه النتيجة المرغوب فيها على أوسع نطاق، فإن الأراضي الفلسطينية المحتلة ستظل على حالها، والسلطة الوطنية منقوصة السيادة ستبقى هي الأخرى كما كانت عليه في الأصل، وحدّث ولا حرج عن الاستيطان والمعابر والحواجز والاجتياحات، وذلك إن لم تؤد المجابهة الدبلوماسية المنتظرة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى تعقيد الوضع المعقد أكثر فأكثر، وجلب ردود أفعال انتقامية أصعب، قد لا تكون العقوبات المالية أقل أشكالها حدة.
وليس من شك في أن مثل هذه السيناريوهات كانت حاضرة في أذهان متخذي قرار المضي قدماً في هذه المواجهة غير المتكافئة مع الدولة العظمى الوحيدة وربيبتها إسرائيل، وأنهم كانوا مدركين سلفاً لمحدودية القدرات الذاتية على تحمل مثل هذه الصعوبات، وواعين لضآلة البدائل الممكنة والخيارات المتاحة، والحد من المضاعفات السلبية، على وضع بالغ الهشاشة ومكشوف أمام سائر التدخلات الخارجية والضغوطات.
غير أن بقاء الوضع القائم على حاله صار ضرباً من ضروب الاستسلام، وأن المضي في النفق التفاوضي الثنائي الطويل المظلم بات ملهاة سياسية عديمة الجدوى، وذلك بعد أن انطفأ الضوء الضئيل في نهاية هذا النفق، وانعدمت كل التعليلات التي تعلل بها القوم على مدى نحو عشرين عاماً من المراوحات، كانت خلالها إسرائيل تلعب لعبة القاضي والخصم والجلاد معاً، وتعمل على الحفاظ على قواعد هذه اللعبة المسلية إلى ما لا نهاية من وقت كان يمر من دون حساب.
على هذه الخلفية، يمكن فهم هذا المسعى الفلسطيني المواكب لزمن عربي جديد، على أنه محاولة منسقة الخطوات جيداً لتغيير قواعد اللعبة القديمة، والخروج من الشرنقة، أو قل كسر النمط التفاوضي المديد الذي استنفد نفسه بنفسه منذ أمد بعيد، لإحلال ديناميات جديدة، وفض كثير من الالتباسات القديمة، وبالتالي إعادة الأمر إلى نصابه الحقيقي، أي رد القضية إلى الأمم المتحدة، وإحالة مفرداتها الجارية إلى المرجعية الدولية، باعتبار أن المنظمة الأممية مصدر الشرعية الأولى وصاحبة القرارات المتعاقبة فيما يخص القضية الفلسطينية.
بكلام آخر، فإن هذه الخطوة المسنودة بإجماع عربي شامل، ودعم داخلي راجح على رؤوس الأشهاد، وتفهم دولي واعد لا سابق له، تعتبر أول محاولة فلسطينية من نوعها، لا تنقصها الجرأة ولا يشوبها التردد هذه المرة، لسحب القضية من بين أيدي الولايات المتحدة التي أدارت فصول المفاوضات السابقة بانحياز مفرط لجانب إسرائيل، ووقف انفراد واشنطن بعملية السلام المتعثرة، وذلك من دون فتح باب مواجهة فائضة عن الحاجة، أو استدراج خصومة سياسية باهظة الكلفة مع الدولة العظمى التي نكثت بوعودها جهاراً نهاراً.
وعليه، فإنه ينبغي فهم هذه الخطوة التي ستبلغ ذروتها بعد أيام قليلة، على أنها مجرد فقرة واحدة من صفحة في كتاب مرجعي، حتى لا نقول إنها فاتحة أولى لمعركة طويلة، متدرجة ومتعددة الأشكال، لا تجري وقائعها في نيويورك فقط، وإنما كذلك على الأرض المحتلة ذاتها، وفي العديد من القاعات الحقوقية والمنابر الدولية، ناهيك عن شاشات التلفزيون، وربما في ميادين تحرير وساحات حرية عربية عديدة، لخلق زخم إضافي جديد، من شأن مراكمة نتائجه الكمية المتفرقة، أن تحدث التحول النوعي المأمول في نهاية مطاف غير بعيد.