تقديم الحل والعلاج منهج الأنبياء والصالحين

Untitled-1
Untitled-1

أسامة شحادة

يتفق الجميع على أننا نواجه مشاكل كثيرة، بعضها قديم وبعضها عميق وبعضها مركب، وهذه المشاكل تستهلك الكثير من الجهد والوقت، وتكاد تكون المسيطرة على غالب مساحات الإعلام والحوارات بين الناس.اضافة اعلان
ولكن الملاحظ أن غالب هذه الجهود تكاد تنحصر في مربع التشخيص والتحديد للمشكلة، ولا شيء وراء ذلك، ولذلك تبقى المشاكل قائمة، بل وتتفاقم مع مرور الوقت.
بينما لو تتبعنا سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصالحين من أتباعهم لوجدنا أن حل المشكلات وتقديم العلاج هو جوهر دورهم الإصلاحي في تاريخ البشرية.
بل إن الوحي الرباني للبشرية والمتمثل في الرسالات السماوية إنما كان لهداية البشرية وحل مشاكلها ومواجهة العقبات التي تعترض طريقها وتوجيهها للقرار السليم فيما تواجهه من تحديات، ويحدثنا القرآن الكريم عن ذلك بوضوح فيما قصّه علينا من تاريخ بداية البشرية ووجودهم على كوكب الأرض فقال تعالى: "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكُلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين* فأزلّهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضُكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين* فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم* قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة: 35-38).
فالوحي الرباني لجنس البشر جاء ليحل لهم مشكلة النزول والإخراج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وتزيينه -والتي هي لليوم سبب كل مشاكل البشرية - ويدلهم على طريق السلامة في الحياة المؤقتة لهم على الأرض "ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" فنزل الوحي الرباني على رسل الله ليرشدهم لدعوة أممهم لسبيل العودة للجنة في الحياة الأخرى.
وهذه نماذج من حل المشكلات وتقديم الحلول في سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصالحين، فيها عبرة وعظة لمن أراد، وهذا من أهم الجوانب التي يجب الاقتداء بها من سيرتهم "فبهداهم اقتده".
فها هو نوح عليه الصلاة والسلام ينشغل بعلاج المشكلة القادمة (الطوفان) لقومه بسبب كفرهم بالله عز وجل ورفضهم دعوته وتحذيره ونصيحته، بل طلبوا منه تعجيل العقوبة من الله التي يخوفهم بها، وعندها التزم نوح عليه الصلاة والسلام استمرار الدعوة والتذكير لقومه مع تنفيذ بناء السفينة، والتي هي الحل والعلاج من الطوفان القادم "واصنع الفلك بأعيننا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرَقون" (هود: 37)، ولم ييأس نوح عليه الصلاة والسلام من دعوة الناس للحل والنجاة حتى مع بدء الطوفان وظهور المشكلة عيانا بعد أن كانت تحذيراً، "ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين* قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين" (هود: 42-43).
وهذا يوسف عليه الصلاة والسلام -برغم كونه مسجونا منذ سنوات ظلما وافتراءً- إلا أنه يبادر فيقدم المشورة والنصيحة والحل والعلاج لأزمة اقتصادية كبرى ستواجه المجتمع الذي سكت عن ظلمه! قال تعالى على لسان يوسف: "قال تزرعون سبع سنين دأبًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون* ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تُحصنون" (يوسف: 47-48).
وفي قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر بيانٌ لأهمية حل المشكلات وعلاج الأزمات، وأن سعة العلم والاطلاع ركن أساس في تقديم الحلول والعلاج، فمعرفة الخضر بالسياسة الظالمة للملك في البلد التالي مكّنته من حماية سفينة المساكين من المصادرة عبر إلحاق ضرر بسيط بها، "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً" (الكهف: 79).
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تتجلى هذه الميزة فيه بشكل فطري وجبلي، فقبل البعثة حين اختلفت قريش وكادت تتخاصم حين أعادت بناء الكعبة بسبب الحجر الأسود ومن يحوز على شرف رَفعه ووضعه في مكانه، تمكن صلى الله عليه وسلم بكل سهولة ويسر من حل هذه المشكلة وحل هذه المعضلة بطريقة إبداعية عادلة أرضت الجميع وحافظت على لحمتهم ووحدتهم، حين بسط الرداء ووضع عليه الحجر الأسود وطلب من الجميع التعاون على رفعه وتقريبه لموضعه ثم وضعه هو بيده الشريفة في محله.
وأخرج المنذري في الترغيب والترهيب أن أحد الصحابة طلب مساعدة مالية فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يبيع بساطاً في بيته بدرهمين ثم أمره أن يشتري بدرهم طعاماً وبدرهم فأساً، ثم أمره أن يذهب للبادية يجمع الحطب ويبيعه، ثم يعود له صلى الله عليه وسلم، وبذلك حوّله النبي صلى الله عليه وسلم من عاطل إلى منتج.
وفي سيرة الصحابة رضي الله عنهم الكثير من المواقف التي تدل على أنهم من أهل مربع الحلول لا مربع المشاكل أو مربع التشخيص المجرد، فها هو سلمان الفارسي رضي الله عنه يقدم حلا لمشكلة هجوم أهل الأحزاب باقتراح حفر الخندق، وهذا البراء بن مالك، شقيق أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدم حلاً شجاعاً ومقداماً لمشكلة تحصن جيش مسيلمة الكذاب في حصن منيع لهم، فيطلب من الصحابة أن يرفعوه على التروس فوق أسنة الرماح ثم يقذفوه داخل الحصن، وفعلاً يتمكن البطل الهمام من فتح باب الحصن من الداخل.
وبهذا يتبين لنا أن الوعي بتقديم الحلول والعلاج هو الوعي المطلوب، وهو الذي عليه يتوقف دوران عجلة الإصلاح وتبدل الواقع والتغيير الإيجابي، وأن الاكتفاء بتشخيص الأمراض والمشاكل لا يكفي، بل هو مشكلة وعلة بحد ذاته.
ومما يحسن التنبه له أن لكل مشكلة حلا، مهما كان نوعها ومجالها، ولكل داء دواء، وإنما يتفاوت الناس بمقدار قدرتهم على حل المشاكل وتقديم البدائل، ومعرفة الحلول والعلاجات للمشاكل الاقتصادية والإدارية والسياسية والاجتماعية تدخل ضمن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله عز وجل داءً إلا أنزل له دواءً علِمه من علِمه وجهله من جهله" رواه أحمد في المسند وهو صحيح، وعلى هذا المفهوم العام للداء والدواء أقام الإمام ابن قيم الجوزية كتابه (الدواء الكافي لمن سأل عن الجواب الشافي).
وفي الختام؛ فإن السعي -أفرادا وجماعات ومؤسسات أهلية ورسمية- للتمركز في مربع الحلول هو الوعي المطلوب اليوم، وهو السبيل لعلاج كثير من الآفات والمشكلات والمعيقات التي نواجهها، وحل المشكلات علمُ له أصوله وقواعده التي تحتاج إلى أن تضمن في مناهج التعليم المدرسية والجامعية ومناهج التثقيف الدعوية والإعلامية والحزبية لتشيع عقلية الحل والعلاج بدلا من عقلية التشاؤم والتلاوم التي أغرقتنا عقودا وقرونا طويلة في الآلام والمحن، وبهذا التمركز والتحول لمربع الحلول نكون قد سرنا على نهج الأنبياء والصالحين.