تكريس الذوق العادي

تحرص معظم الفضائيات العربيّة السائرة على خلق برامج للمسابقات الفنيّة أو عرضِ مستورد منها، وغالبها في الغناء على غرار ما تعرضه تلفازات الغرب الرأسماليّ، ولها من ذلك ثلاثة أهداف لا رابع لها، الأول اجتذاب المشاهدين، ومن ثمّ اجتذاب الإعلانات، والثالث اعتماد التصويت آلية أساسيّة في البرنامج، وهو الذي يدرّ ملايين الملايين على هذه القنوات، فتنفق منها بسخاء على الملابس والديكورات وترفيه المشاركات والمشاركين وإقاماتهم المريحة. وقد غدت هذه البرامج موضة رائجة، تستطيع القناةُ الذكيّة في التعامل مع مفردات الإعلام أن تجعل منها تجارة رابحة، تُغنيها لولد الولد كما يُقال. اضافة اعلان
وقد حاولت فضائيّة الخروج عن الغناء بجعلِ الشعر هو حقل التنافس، ولكنّها مع ذلك استخدمت آليات البرامج الغنائية في التصويت، مما يعني استهداف الربح وتحويل الشعر إلى مادة مستهلكة، يلتبسُ تذوّقُه أو التصويتُ له بانحيازاتٍ مكانيّة أو جنسيّة أو تعاطفيّة، لا علاقة لها بمفهوم الشعر ومعناه. كما حرص البرنامجُ على فخامة الديكورات التي لم يكن لها كبير صلة بالشعر. ولربما لو كان الديكور يتضمَّنُ كتباً ودواوين قديمة وحديثةً ولوحاتٍ استلهمت من الشعر مفرداتها أمثال لوحات الفنان العراقي ضياء العزاوي عن المعلقات، ولوحات النحاتة الأردنيّة منى السعودي عن شعر أدونيس وشعر محمود درويش وسان جون بيرس، لكان أوقع في النفس وأعلق.
وإذ يبدو أن مشاركة الجمهور في الحكم على المواهب توجُّه ديمقراطيّ حميد، يُخرج عملية الانتخاب من هوى الحكام، أو شُبهته، إلا أنه للأسف يُدخلنا في هوى الجماهير التي غالباً ما تنتقي على خلفية بلد الموهبة. وكم مرةً فاجأتنا النتيجةُ بأصواتٍ ذات قوامٍ هشّ، أو لا بأفضلها! ومع العلم أنّ التفوق في الغناء مثلاً لا يتوقّف على خامة الصوت ونقاء الأداء أو إتقانه فحسب، فإنّ أمثولة النجم -في رأيي- تتلخَّصُ بالتوظيفِ الأريب للصوت في جنس غناءٍ راقٍ، إن كانت هذه البرامج تقصدُ ذلك، وهي لا تقصد. وإلا ما جدوى أن يفوز صوتٌ صاحبتُه أو صاحبه ينبئ سلوكهما الأولي بحضور رخيص وخيارات باهتة، ما لم يكن الأمر إعادة إنتاج ما غنته أم كلثوم أو عبدالحليم؟ وقد أثبت ما أقول عدد من "الفيديو كليبات" ظهرت فيه بعض المتباريات في استعراضٍ جسديّ يطغى على الصوت الفائز. وما بالُ الأصوات المتميّزة تميّزاً استثنائيّاً يخونها الفوز، كما حدثَ مع بعض أصوات المغرب العربي. بل إن تعليقات أعضاء لجنة الحكم أنبأت عن ذائقةٍ فظيعة لها علاقة بالجهل وقلة الخبرة بالغناء وأنواعه، وبالأصوات وجواهرها. وهي مسألةٌ أخرى تعاني منها لجان التحكيم المختارة لتقود، وهي بحاجة إلى أن تُقاد!
صحيح أن هذه المسابقات تنطوي على هدفٍ أساس وهو الترويح، لكن المال الذي يتدفق على فضائياتها ينبغي أن يحذِّر من غياب البوصلة، وإعادة إنتاج العادي، في أحسن الأحوال، بدعم أفراد محكومةٌ أهواؤها بما تفيضُ به الساحةُ، إلا فيما ندر (ومن هذه الندرة محمد عساف)، من فنّ استهلاكيّ لن يذكره التاريخ باحترام كبير!
دعونا لا نفقد الأمل!