تلك الليلة بعد "شارع جكر"

يخبرني خليل، أنّه صعد ليلة السبت الفائت إلى سطح البيت، وجلس يستمع إلى الموسيقى، بينما صواريخ المقاومة؛ "رشقة" صواريخ سرايا القدس (حركة الجهاد الإسلامي)، تنطلق، واستمر كذلك أثناء الرد الصاروخي الإسرائيلي (المنتظر).   اضافة اعلان
خليل في العشرينيات؛ أي أنّه عندما بدأ حصار غزة، والصواريخ، كان طفلاً. وأسأل شباباً التقيتهم في غزة، كيف يتعاملون مع لحظات وصول الصاروخ؟. يخبرني، الأول الملتحي، الواقف، بعد تسامح خطيبته المنشغلة بالعمل على الحاسوب، مع تدخينه سيجارة قدّمها له أحد الحاضرين، أنّه لا يشعر بشيء، وأضاف، لكنه يعرف أن خطيبته تفقد قدرتها على فعل أي شيء، حتى ينتهي القصف.
أمّا أشرف، الصحفي الشاب، فرأى ابنته، أربعة أعوام، تنظر، رغم تأخر الليل، للوميض، فأتاها بمقعدٍ لتنظر من النافذة، وأخبرها: "أنا يا أبي عشت انتفاضة الأقصى، وكنتُ أكبر منك قليلا"، ويخبرها عن حرب 2008 و2012، و2014، ويقول لها: ولدتُ وأنا مثلك وكَبُرت، وأنت ستكبرين، وربما يعيش أبناؤك مثلنا. تعلق خطيبة الشاب الملتحي، كأنها تبعد الأمر عنها، أن صديقتهم، الجالسة والصامتة، ظلت متوترة حتى إعلان الهدنة، وأنّها تعجز عن فعل شيء حين يحدث الصدام "الأسبوعي"، حتى إعلان الهدنة الروتينية. أسأل أشرف، لماذا أخبرت ابنتك هذا؟ فيخبرني حتى لا تخاف. وأسأله، هل تُطمئنها حقاً؟، أم أنك تعبّر عن خوفك؟ عن قلقك باستمرار الأمر؟.
قبل ليلة القصف، شرح لي شباب ونحن نتجول في منطقة مَلَكَة، في مدينة غزة، يوم الجمعة الفائت، كيف أنّ كتائب عز الدين القسّام (حماس)، افتتحت الشارع الترابي العام 2015، على طول حدود المنطقة العازلة، وسمّي "جكر" إشارة لإغاظة الإسرائيليين. وحدثت في البداية حفلات زفاف ونزهات في الشارع على سبيل "الجكر"، ولرؤية جمال فلسطين في الداخل.
ويخبرني ناشط من "فتح" أنّه عندما جاءت فصائل للتمهيد لإطلاق مسيرات العودة الربيع الفائت، وجدوا مجموعات شباب تسمي نفسها "سواعد الانتفاضة"، كانوا قد أمضوا شهوراً يرابطون في المكان ويخططون ماذا سيجري فعله، ولا ينتمون لأي فصيل.
تسألني إعلاميتان شابتان بجلبابيهما، وتحملان كاميرا، ما رأيك؟ وأرد "كأني أرى مسيرات 1953 ضد التوطين في سيناء، وقد التقى في تلك المسيرات قائدان، هما الشيوعي معين بسيسو، ومن الإخوان المسلمين فتحي البلعاوي". ولا أكمل، ولا أقول إني تذكرت قيام الشابين خليل الوزير وعبدالله صيام وآخرين حينها، بتنسيق عمليات فدائية، من ضمنها تفجير خزان مياه زوهر، العام 1955، ففاضت مياهه في بيت حانون وبيت لاهيا.
لن أقول لهما إنّ يزيد صايغ في كتابه الضخم "الكفاح المسلح والبحث عن الدوّلة" علّق بما يشبه الاستغراب والنقد، أنّ الشبان، حينها، لم يبالوا برد الفعل الدموي للإسرائيليين، وقصفهم السكّان، واعتبروها عاملاً لإنضاج الغضب الشعبي.
ولن أقول إن نقد صايغ يشبه نقد شرائح في غزة الآن، منهم مناضلون مشهودٌ لهم، بأنّ المسيرات لها ثمن باهظ غير مبرر برأيهم، ويَتشكّكون أن فتح شارع جكر جرى من دون غض النظر الإسرائيلي، لتسهل دوريات المقاومة لضبط الحدود.
وأنا أخرج من غزة، أسأل نفسي؛ كأني بالمقارنة بين 1953 و2018 أعتقد أن "القصّة" طالت كثيراً؟ كما قال أشرف لابنته؟. كأنّ خليل وهو يستمع للغناء وسط الصواريخ، يبحث عن هدوءٍ فقدوه، خصوصاً، الفتيات اللاتي لم يتظاهرن بهدوء الشباب؟
أتذكر الشاب المعروف باسم أبو علي أبو صافي، الملقب كنوع من الطُّرفة، باسم "الأمين العام لشارع جكر". وجدت فيديوهات توثق حديثه؛ يخطب بلغة ثورية منمقة ولكن مفككة طريفة. شاهدته، ولم أكن قد سمعت به بعد، يرفع العلم ويسير خلف السياسيين، ويصرخ لا توقفوا مسيرة العودة، "التهدئة خيانة للخان الأحمر".
هل خطابات أبو صافي تشبه الواقع؟ لماذا تستمر المسيرة منذ 1953؟ وكيف ربط "الأمين العام" أبو صافي، بين التهدئة والخان الأحمر؟ هل شاهدَ خليل وهو يستمع لفيروز أثناء القصف، الممثل محمود الجندي، في فيلم ناجي العلي، يغني ثَمِلاً، أثناء قصف حرب لبنان 1982، "يخرب بيت عيونك يا عليا".
أفكّر بكرم الشبان والشابات، وهم يخبرونني أني خطرت ببالهم أثناء القصف، وتساءلوا كيف أشعر في أول ليلة قصف أعيشها؟