تمهين التعليم: هل التعليم مهنة فعلا؟

الدكتور ذوقان عبيدات - (ارشيفية)
الدكتور ذوقان عبيدات - (ارشيفية)

د. ذوقان عبيدات *

(1) المهنة والوظيفة والرسالة
الإنسان حيوان عامل. هذا ما يتفق عليه كثيرون. ولكن أي نوع من العمل؟ بعضنا يعتبر العمل رسالة كما يفعل الأنبياء. وبعضنا يعتبر العمل من أجل كسب العيش. وبعضنا يعتبره جهداً لتحقيق الذات. فأي أنواع العمل نمارس نحن المعلمين؟اضافة اعلان
قالوا للمعلم، أنت تؤدي رسالة! وهذا يعني أنك تشارك الأنبياء والشهداء، وأن عليك أن تضحي لنشر رسالتك دون أن تتوقع أي مردود سوى رضا الله. فالرسالة عادة ما تكون مقدسة أو شبه مقدسة. وأن تتضمن معنى هداية الآخرين! والتعليم ليس كذلك! والمعلم ليس كذلك!
وقالوا للمعلم، أنت تمارس مهنة التعليم! وهذا يعني أنك إنسان حر مستقل، يتخذ قراراته بنفسه، دون ضغوط، يعرف ماذا يعمل، ومتى يعمل وأين يعمل وكيف يعمل، فهل التعليم كذلك؟ وهل المعلم كذلك؟
وبنفس الوقت يبلغنا الواقع، أن المعلم وموظف البريد والجمرك يخضعون لنفس القواعد والإجراءات، ويعملون في إطار نظام واحد، لا يميز بين موظف وآخر الاّ بالعمل. وعلى الرغم من بعض الإجراءات التصحيحية أو التجميلية مثل بعض العلاقات، ونظام الرتب، وإجازة العمل يبقى الملف مفتوحا: هل التعليم مهنة؟ وهل المعلم إنسان مهني أو عامل مهني؟

(2) ما يميز المهنة عن الوظيفة
للعمل المهني شروط وقواعد أشبه بمبادئ وثوابت، مثل: - حرية ممارسة العمل واتخاذ القرارات المناسبة. - اطار نظري يحكم الممارسات. - شروط محددة للالتحاق بالعمل، ولممارسة العمل أيضاً. - كفايات ومهارات يجب أن يمتلكها المهني بدقة وإتقان قبل التحاقه بالعمل. - تدريب مهني كافٍ قبل التخرج وقبل ممارسة العمل. - قواعد أخلاقية صارمة، يلتزم بها صاحب المهنة، ويحاسب إذا تجاوزها. - مساءلة مهنية صارمة تتعلق بجودة العمل وطرق تقديم الخدمة. - نقابة حرة مهنية، تشرف على سياسات العمل وتدير شؤونه.
كما تشمل الشروط والقواعد: - اعتراف المجتمع بالعمل كمهنة تقدم خدمة حيوية. - نظام حوافز ورتب متدرجة يرتقي اليها المهني مع تقدمه في الأداء والإنجاز. - عمل دائم، لا يحدد بأي قيود لا صلة لها بالمهنة. - لقب مهني يحمله مدى الحياة.
- نمو مهني مستمر دون توقف.
هذه بعض شروط العمل المهني وقواعده! فما مدى انطباقها على المعلمين وعلى التعليم؟

(3) الحرية المهنية: هل يمتلكها المعلم؟
يقصد بالحرية المهنية قدرة المعلم على اتخاذ القرار فيما يفعله ويمارسه. فهل يتخذ المعلم قرارات في مجال: مادة التعلم، ووقت التعلم، ومدة التعلم وحتى كيفية التدريس والتقييم والترسيب والتنجيح، كما يفعل الأشخاص المهنيون؟
يتخذ الطبيب كل القرارات- دون أي تدخل- وقد يكتب لمريض دواء ليس موجوداً في البلد! فماذا لو قام معلم بإعطاء واجب ليس موجوداً في الكتاب؟
المعلم محدد بكل القواعد - غير المهنية - التي قد يفرضها رئيسه في العمل. فمن الشائع في التعليم أن تكون مؤهلات المعلم أكثر وأعلى من مهارات مدير التربية او المشرف او مدير المدرسة! ولكن ما مدى شيوع ذلك في عمل الأطباء والقضاة والمهندسين مثلاً؟
يسير المعلم وفق جدول ليس من صنعه، ويدرس كتاباً ليس من إعداده. وبوقت ليس من اختياره، ولمدة لم يستشر بها. ماذا لو خرج معلم في بلد علماني عن قواعد العلمانية؟ أو لو خرج في بلد ديني عن قواعد الدين؟ ما مدى الحرية او الحماية او الأمن المتوافر له؟ وماذا لو جرّب طبيب دواء ما أو جراحة ما؟ هل سيتعرض الى نفس ما يتعرض له المعلم؟

(4) للمهنة إطار نظري يحكم الممارسات
 لكل مهنة علومها، فالطب يستند الى علوم مخبرية مثل الفيزيولوجيا والبيولوجيا والتشريح وغيرها. والمهندس يستند إلى اطر رياضية ومعادلات تتميز بالدقة، والقاضي يستند الى قواعد المنطق والدليل والبرهان. فما مرجعيتنا نحن المعلمين؟ هل زودنا علم النفس التربوي بما نحتاج اليه في مسائل تعزيز التعليم والذكاء والنجاح والرسوب والعقوبات ام ما زالت هذه الامور قضايا جدلية؟
حين يمارس الطبيب عمله، فإنه يسير وفق نظرية واضحة في وعيه ولا شك ان المعلم يمارس عمله وفق نظرية ولكنها ليست في وعيه إطلاقا، فحين يدرس بالطريقة الكلية او التفكير او الحوافز او الدوافع فإنه يطبق بعض قواعدها، لكنه لا يعي الى أي نظرية ينتسب اليها سلوكه حتى يكون قادرا على مواجهة تحديات تواجهه في اثناء الممارسة!
ان المعلم مطالب - والمعلم هنا كل عامل في التعليم: باحثا كان أم خبيرا، أم وزيرا-، كلهم مطالبون بالبحث عن الإطار العلمي النظري، فلو طبقنا بحوث الدماغ الحديثة في التعليم لصار لدينا اطار نظري علمي يقول لنا مثلا: "قدم خيارات، قدم تغذية راجعة، قدم وفق الحاجات، قدم عملا تعاونيا، اسمح بالحركة.. الخ".
ومع ذلك لا تزال مثل هذه الامور في التعليم بعيدة المنال، نحن بحاجة الى تعليم وفق نظرية علمية، فهل نحن فاعلون؟

(5) شروط محددة للالتحاق بالمهنة
تفرض كل مهنة شروطا للالتحاق بها، فدراسة الهندسة مثلا محكومة بشروط لا يستطيع اختراقها أحد ما لم تنطبق عليها هذه الشروط، وكذلك الطب، وغيره، فهل نجد في التعليم مثل هذه الشروط؟ هل تشترط كليات التربية معايير يجب توافرها فيمن يلتحقون بها؟
اذن هناك شروط ومدخلات معينة للالتحاق بمهنة ما، فلا يمكن مثلا ان يقبل طبيب ترتجف يداه في تخصص الجراحة، بينما قد يقبل شخص يواجه صعوبات في النطق في كليات التربية. اذن نحن مطالبون بالارتقاء الى وضع شروط للالتحاق بالتعليم.

(6) إتقان كفايات ومهارات قبل ممارسة العمل
لا يسمح لأي مهني ان يمارس العمل بعد تخرجه من الجامعة، حيث يطلب منه التدريب سنة او سنتين، فالطبيب يتدرب سنة كاملة تحت اشراف طبي، ولا يسمح له باتخاذ قرار في اثناء التدريب، والمحامي يتدرب سنتين بعد تخرجه لا يسمح له خلال هذه الفترة بممارسة أي عمل رسمي منفردا. فالمطلوب من المهني دائما اتقان كامل للمهارات قبل الممارسة، فهل هذا ما نفعله نحن المعلمين؟
ان المعلمين يتدربون في مدارسهم وبعد التحاقهم بالعمل، وقد لا يتلقون خلال سنواتهم الاولى اية توجيهات الا من خلال ما يشاهدونه من زملاء قد يكون بعضهم محبطا فما المطلوب اذن لتحقيق هذا الشرط المهني المهم.

(7) قواعد أخلاقية
لكل مهنة قواعد اخلاقية يلتزم بها المهني، ويعاقب اذا خرج عنها. فالطبيب مثلا يقسم يمينا"قسم أبوقراط" على: - ان يحافظ على اسرار المرضى. - ان لا يميز بين المرضى حسب المكانة والجاه.  - ان يقدم افضل خدمة يستطيع تقديمها.  - ان يقدم الخدمة لكل من يحتاج اليها.  - ان يقدم الخدمة في الوقت المناسب.
فماذا نفعل نحن المعلمين؟ - اننا نعلن نتائج طلابنا في الصحف وعلى رؤوس الأشهاد وليس لدينا أسرار. - اننا لا نقدم الخدمات في اوقات مناسبة، فالطبيب مثلا ملزم بتقديم الخدمة في أي وقت خلال الليل او النهار، فكم من المعلمين يتقبلون اتصالات طلابهم حتى خلال النهار.
وتبقى اسئلة مثل، هل نقدم افضل الخدمات؟ وهل نميز بين طلابنا؟ وهل نقدم ما يحتاجون اليه؟ ما قواعد العمل لدينا؟

(8) المساءلة المهنية
يتعرض المهني الى مساءلة مهنية فنية، ومن قبل هيئة مهنية مثل نقابة - لجنة فنية، تقوم بمحاسبته على اخطاء فنية مهنية، بينما نحن المعلمين نحاسب على اخطائنا من قبل لجان إدارية، فقد يحاسب معلم علوم من قبل رئيس قسم لغة عربية، او مدير لغة انجليزية وبشكل عام، لا يحاسب المعلم على اخطاء فنية بل على اخطاء ادارية مثل مخالفة القوانين، حيث يستطيع المعلم ان يميز ويتحيز دون إمكان تعرضه للمساءلة.
والمساءلة المهنية للمعلم يفترض ان تتعلق بما يأتي: - ما مدى رضا الطلبة عن ادائه؟ - ما مدى رضا الأهل عن ادائه؟
- ما مدى انجازه؟ ما مدى التغير في سلوك طلابه؟ - ما التطوير الذي أحدثه؟ - كم ساعة تدرب؟ - كم طريقة أو وسيلة او أسلوبا او بحثا أنتج؟ كل هذا ما زلنا نحتاج اليه حتى نكون مهنيين!

(9) النقابة المهنية
لكل مهنة نقابة تنظم شؤونها وتضع شروط الممارسة وتعطي الاجازة والسماح بالعمل لمنتسبيها، وتضمن لهم دخلاً مدى الحياة، وتدافع عن زملاء المهنة، وتحاسب أيضاً وتطور العمل والمهنة فهل للتعليم نقابة؟ نعم للتعليم نقابة؟ لكن ما حدود اختصاصها؟ وما مدى اعتراف الدولة أو سماح الوزارة لها بممارسة انشطتها. هل تعطي اجازات التعليم؟ هل تنظم شروط المهنة؟
هذه اسئلة يجب اثارتها دائماً، فالنقابة حققت حتى الآن مكاسب في مقدمتها أنها عضو في مجلس التربية والتعليم، ومع أنها لم تستطع ايصال عضو فاعل، الا ان مجرد تمثيلها في مجلس للتربية يرسم السياسات هو مكسب ممتاز. لكن تبقى النقابة قانونياً أضعف من سائر النقابات المهنية. فلم تفعل حتى الآن أي عمل يتعلق بتطوير التعليم.

(10) اعتراف المجتمع بالتعليم كمهنة
هناك مهن تقدم خدمات حيوية لا غنى عنها. فالطب لا يمكن الاستغناء عنه وكذلك الهندسة أو القضاء. فبغياب هذه المهن تتدهور امور المجتمع! فهل يحدث هذا الفرق لو تم إغلاق المدارس؟ ما الآثار الحيوية لذلك؟ ماذا يحدث لو غابت خدمة التعليم؟ هل سيموت الناس؟ هناك من طالب بإلغاء المدارس وتكليف الاسرة بمسؤوليات تعليم ابنائها بل هناك فعلاً من سحب ابناءه من المدرسة ليشرف هو على تعليمهم! فهل التعليم مهنة حيوية؟
الإجابة نعم بالتأكيد! انه خدمة حيوية. ولكن لماذا لا يعترف المجتمع بهذه المهنة حتى الآن؟ في اغلب دول العالم لا يعتبر التعليم مهنة على الرغم من قيمة الخدمة التي يقدمها المعلمون!
ونحن العرب، عبر تاريخنا - لم نكن تقدم الاحترام اللازم للمعلمين. وباستثناء معلمي الخلفاء لم يحظ المعلمون كجماعة بالتقدير اللازم. ان اعتراف المجتمع بالتعليم كمهنة يتطلب جهوداً من المعلمين، ليس لمجرد إقناعهم بذلك. بل لتطوير نظام تعليمي يفرض نفسه على المجتمع.

(11) هل لدى المعلمين رتب متدرجة؟
يقال عن التعليم -وهذا صحيح- أنه عمل مسطح، لا تدرج فيه، فجميع من فيه بحمل لقب معلم. ولا فروق بين المعلمين في المسؤوليات والحقوق والواجبات. يلتحق الشخص بالتعليم معلماً. ويتقاعد معلماً على الرغم من كل خبراته وجهوده! ويلتحق الشخص بالجيش جندياً، وقد يتقاعد ضابطاً وبرتب متعددة. ويلتحق الطبيب في المهنة، متدرباً ثم مقيماً ثم أخصائياً ثم استشارياً وينتقل من مستوى إلى آخر. فماذا في ذلك؟
ان المهنة المسطحة كالتعليم لا توفر حوافز للعمل والتطور والتقدم. كيف نغري معلماً بالعمل على تطوير ذاته؟ كيف نشجعه على زيادة مؤهلاته وخبراته وهو يعرف عدم جدوى ذلك؟ هل سنقول له اعمل! حتى يتحسن وضعك الوظيفي؟ هل نستطيع اغراءه برتبة مهنية؟ يمكن ان نقول للعسكري اعمل جيداً لنعطيك وساماً ورتبة جديدة. فهل يمكن ان نقول ذلك لمعلم؟
من هنا يبدو الحل في البحث عن نظام للرتب ليس كالنظام الشكلي القائم حالياً ولم يستفد منه سوى آحاد المعلمين! نحتاج نظام رتب حافزا لكل معلم!

(12) المهنة توفر عملاً دائماً
تعطي المهنة أصحابها مهارات وخصائص تجعلهم دائماً عاملين. فالطبيب والمهندس والمحامي لا يتقاعدون قسراً إلا اذا كانوا موظفين، لكنهم يستطيعون ممارسة العمل طوال الحياة، كما يستطيعون الحصول على راتب مهني عبر نقاباتهم طوال الحياة.
ومن المفارقات ان المعلم يفقد عضويته في النقابة بمجرد تقاعده فهل نحن المعلمين: نمارس عملاً مهنياً؟

(13) المهنة تعطي لقباً مهنياً مدى الحياة
يحتفظ الطبيب والمهندس والمحامي بلقب مهني دائم، حت لو لم يمارس العمل المهني. فالمحامي يستخدم اللقب عند مدخل منزله وفي عنوانه وبطاقته وفي زواج ابنائه وعلى بطاقات دعواته. في اثناء عمله أو بعد تقاعده وحتى في خبر نعيه.
والمعلم والمشرف ومدير التربية، ليس لديهم أي لقب مهني، ولذلك لا نصف أياً منهم بلقب. لا يكتبون على منازلهم منزل مدير التربية، أو ابنة مدير التربية عند زواجها. كما لا يحتفظ بلقبه الوظيفي بعد تقاعده بلحظة. بل لا يمكن الادعاء بأنه مدير تربية سابق أو مشرف سابق... الخ.
فالطبيب والمهندس والمحامي يكتسب لقب دكتور، مهندس، محام ويحق له استخدامه قبل اسمه، كجزء لا يتجزأ من التعريف به. فأي ميزة لنا حن المعلمين؟

(14) نمو مهني مستمر
يمارس المهني تعلماً مدى الحياة. ولو غاب الطبيب عن العلم أسبوعين لبدا خاسراً كثيراً من معارفه. ونظراً لأهمية النمو المهني سنفرد له مقالة خاصة.
هذه خصائص المهنة! فكيف نجعل التعليم مهنة؟

* رئيس وحدة البحث في مجتمع النهضة التربوية.