تهاوي النموذج التركي

بكل المقاييس العالمية، تعتبر تركيا من الدول الديمقراطية الراسخة؛ إذ هناك انتخابات دورية غير متقطعة، وحياة حزبية راسخة، ودرجة كبيرة نسبياً من الديمقراطية غير الكاملة. لكن هناك تباينا في تقييم مدى عمق التجربة الديمقراطية في تركيا، نظراً لوجود ملفات عالقة في الحياة السياسية فيها.اضافة اعلان
اللافت في التجربة الديمقراطية التركية، هو صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، وفوزه المتكرر في الانتخابات لثلاث مرات على التوالي. والأهم من ذلك أن تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية استطاعت إحراز إنجازات مهمة، وبخاصة على الصعيد الاقتصادي. لكن من أهم ما يميز التجربة التركية، أنها باتت تُطرح بوصفها نموذجاً للتعايش بين حزب سياسي يستند إلى مرجعية دينية في دولة علمانية، اشتهرت تاريخياً بعدائها للدين. فغدت تركيا تُطرح في العديد من الدول باعتبارها نموذجاً يمكن أن يحتذى به، وبخاصة في العالمين العربي والإسلامي اللذين باتت تهيمن عليهما حركات سياسية أصولية.
لقد جاءت الحادثة التي فجّرت الاحتجاجات غير المسبوقة في تركيا بمثابة المفاجأة لكثير من المراقبين؛ إذ تحوّل احتجاج بيئي إلى اندلاع مظاهرات عارمة في أنحاء تركيا كافة على مدى الأيام الماضية، وتجاوزت شعاراتها المشكلة التي تسببت بها هذه الاحتجاجات لتطالب باستقالة رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي.
اللافت في ردة فعل الحكومة التركية، هو العنف المفرط الذي استخدم في التعامل مع هذه الاحتجاجات السلمية، وبما يتناقض مع أساسيات الممارسة الديمقراطية بالحفاظ على حق التظاهر والاحتجاج بالطرق السلمية، وعدم اللجوء إلى هذه الدرجة من الخشونة في التعامل مع المحتجين. واللافت أكثر في هذه الأحداث هو موقف أردوغان نفسه الذي وصف حركة الاحتجاج بالمؤامرة الداخلية والخارجية، والإشارة إلى المحتجين "بالرعاع"، وإصراره على المضي قُدّماً بمشروعه، وتوعده المحتجين بمزيد من الحزم في حال استمرارهم بالاحتجاج.
بردة الفعل هذه، لم يختلف أردوغان كثيراً عن غيره من الزعماء العرب. وقد ظهر بمظهر "الدكتاتور الناعم"؛ إذ إنه لم يتحمل الاختلاف معه بالرأي والسياسات، وكشّر عن أنيابه. والأزمة التركية في تصاعد، إذ قتل أول متظاهر قبل يومين، ونفذت نقابات عمال القطاع العام إضراباً أسمته بـ"التحذيري"، شمل عدداً كبيراً من المدن التركية.
إن النزق الذي قابل به أردوغان حركة الاحتجاج، يعكس "دكتاتورا نائما" في شخصية أردوغان؛ إذ إنه لم يتحمل الاختلاف مع رأيه، وأعلن بأنه سيمضي قدماً في تنفيذ مخططه بصرف النظر عن وجاهة رأي المعارضة في هذه المسألة.
والاحتجاجات المتصاعدة في تركيا جاءت نتيجة تراكمية لسياسة حزب العدالة والتنمية، ومن أهمها أن المطالب الاقتصادية التي حققتها الحكومة لم يستفد منها العديد من الناس؛ وكذلك الاستيلاء التدريجي من قبل الحزب على الجيش، وقوى الأمن، والمؤسسات المدنية الأخرى. أيضا، وبالرغم من تخلي حزب العمال الكردستاني عن الكفاح المسلح، إلا أن حزب العدالة والتنمية لم يقدم حلاً سياسياً جذرياً للمشكلة الكردية العابرة للحكومات المتعاقبة.
إن استخدام الخشونة في التعامل مع المحتجين، قد حوّل تركيا بين ليلة وضحاها إلى ديمقراطية خشنة، وقد يؤذن ذلك بأفول النموذج التركي، وغياب نجم حزب العدالة والتنمية الذي شكل حالة فريدة من التعايش بين الدولة العلمانية والأحزاب الدينية.

[email protected]