توازن الضعف

إن كانت المعرفة قوة فإن الخيال المبني على المعرفة هو القوة العظمى وعليه لطالما شغل علم المستقبليات ذهن الساسة نظرا للسلطة التي يحوزها قارئ الغد، وبهذا السياق مثلا يرى فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية الإنسان أن هناك كتابين حددا المستقبل في خمسينيات القرن المنصرم الأول هو (1984) لجورج اورول وكتاب (عالم جديد شجاع) لـ «الدوس هكسلي» فالأول يتحدث عن عصر تكنولوجيا المعلومات والثاني يتحدث عن الثورة التكنولوجية الثانية وعلى خطى هذه الثورة المتقدمة بنى آلن توفلر مجده في رؤيته التي وضعها في كتابه الموجة الثالثة حيث كان يحلق وحيدا خارج السرب بقدرته العجيبة على الحديث عن الغد وكأنه قادم من المستقبل.اضافة اعلان
إن كتابات توفلر تشابه تماما الفكرة في المسلسل الألماني المثير (Dark) والتي تنص على أن: الماضي لا يؤثر فقط في المستقبل، بل المستقبل أيضًا يؤثر في الماضي، الأمر يشبه مسألة الدجاجة والبيضة، لا يمكننا الجزم بشأن من وُجد أولًا، فكل شيء مترابط بالضبط وهو لا يخالف ما قدمه اينشتاين: «الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم عنيد مستمر»
وضمن هذا الوهم الصلد المتتابع وقبل ما يقارب ثلاثة عقود دخل كتاب آخر في بورصة تأطير المستقبل إنه مخطوط (صدام الحضارات) والصراع المنتظر بين العالم الحر ضد الأصولية المتطرفة، ليكون الجميع بعد ذلك بعقد شهود على هذه العبارة التي أريد لها أن تكون شريط البداية لنقل النظرية الى التطبيق: (من ليس معنا فهو ضدنا)
هذه الكلمات التي انتقاها الرئيس الاميركي جورج بوش لتكون وسم المرحلة التي تلت واحدة من أعنف الهجمات الإرهابية في التاريخ والتي ستعرف فيما بعد بأحداث الحادي عشر من سبتمبر وهي الأحداث التي مهدت لنقل الصراع من يد المنظومة السياسية إلى العالم الاجتماعي لتصبح الشعوب في مواجهة الشعوب بموازاة صراع الأنظمة السياسية الكلاسيكي، بعدها بدأ العالم بنقل مفردات هنتنغتون من نظرية صدام الحضارات ليبدأ المستقبل بتشكيل الحاضر لحظة ارتطام الطائرات المشحونة بفكر جرذان كهوف تورا بورا بدرة تاج الرأسمالية العالمية
انزلق العالم عبر شبكات إعلامية أسست لتكون الناطق الرسمي باسم التنظيمات الإرهابية التي تبنت فكرة الحرب الدينية، وكان للأردن رأي آخر بالتأكيد على أن ما يقوله هنتنغتون مجرد نظرية وليس قدرا وعليه صنع الأردن مفرداته الخاصة فاختار الجيش الأردني معسكر الاعتدال ضد التطرف وهو ما قام به جلالة الملك من قلب لمفردات اللعبة وبالتالي قلب الطاولة على عصابات الإسلام السياسي التي شكلت رأس حربة للمشروع الإرهابي المختطف للإسلام ويوضح ذلك في مقاله المنشور بالديلي ميل في كانون الأول/ 2015 : «إننا نخوض حربا داخل الإسلام ضد الخوارج» ويقدر جلالته في لقاء آخر أن الحرب الأمنية والأيديولوجية ستأخذ وقتا أكثر، ربما تمتد إلى 10 أو 15 عاما.
اليوم يظهر مفهوم عميق وهو ما كشفته دراسات البنتاغون المرتبطة بالأمن القومي في مطلع هذا العقد تحت عنوان (توازن الضعف) كبديل لتوازن القوى الذي حكم الأساس التحليلي للبرنامج الفيدرالي العالمي كما يرى والتز في المرجع المذهل (الإنسان والدولة والحرب). وبالعودة لفكرة توازن الضعف التي يمكن ملاحظة دخولها حيز التنفيذ ببساطة حيث يتم خلالها استنزاف قوى الدول في حروب باردة او حروب خاطفة ومحدودة تفضي لتوتر اقليمي وحالة عدم استقرار واسعة قائمة على سلام هش يتبعه بالضرورة إنهاك اقتصادي واجتماعي يضع الدول على حافة الانهيار وهذا ما انجزته أدوات اسرائيل وتركيا وإيران في المنطقة.