توثيق اللحظة بمنأى عن الأخلاق!

بكل هدوء وروية، يمسك بهاتفه ويبدأ تصوير مشهد مؤلم موجع يحدث أمامه بمحض الصدفة؛ عله يكون "السبّاق" إلى نشر الفيديو على "يوتيوب" وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي.اضافة اعلان
أن يكون الأول في توثيق الحدث هو هدفه، أما كون هذا الحدث هو من فئة الأكثر ألما ومأساوية وقسوة، فإن ذلك يعني أيضاً أنه "محظوظ" للغاية! إذ ينفرد بقصة يستطيع التباهي برصدها أمام أقاربه وأصدقائه، كما لم يفعل أحد سواه. فوق ذلك، فأن يحظى بتصوير الحادثة المختلفة واللافتة للانتباه، يضمن له أن يحوز أكبر نسبة من "اللايكات" والتعليقات على "يوتيوب" وغيره، فينال شهرة لم يحلم أن يحظى بمثلها قط!
ينتهي الآن من تصوير المشهد، ويتأكد أن "جهده!"، لم يذهب سدى، بأن تم تخزين الفيديو في المكان الصحيح. وهنا ينتهي دوره في مكان الواقعة التي قد تنحدر إلى مستوى جريمة؛ فيدير ظهره عائداً إلى حين يمكن له إشهار "إنجازه"، ومتابعة حجم الانتشار و"التشيير"، والتلذذ برأي من حوله بشأن فعله "العظيم"!
تلك هي قصة كثيرين ممن يقفون أمام حوادث قد تكون تحرشاً، أو محاولة قتل، أو حادث سير متسببا في حالات وفاة وإصابات بليغة، عدا عن اختراق خصوصية مواطنين آمنين.
إذ ينبهر أهم بالحدث الذي أمامه، ممتنعا عن أداء واجبه في تقديم المساعدة أو درء الخطر أو حتى الحد منه، ومتخلياً بالنتيجة عن مروءة ونخوة وأخلاق وشجاعة باتت شبه مفقودة في وقتنا الحالي! لكنه فوق ذلك لا يقرر الانسحاب بهدوء، بل يستغل ما قد يكون مأساة لإبراز ذاته بعناوين مثيرة، ربما تكون بعيدة كل البعد عن كل أوجه الإنسانية. وهو ما قد يرتقي إلى جريمة قتل معنوي لعشرات الأشخاص من ذوي العلاقة بما تم تصويره، خصوصا إن كان ذا جانب إنساني مؤلم.
من أين يأتيه هذا التحلل من العاطفة والشعور ليصور لحظة موت في حادث ما، حيث كان بإمكانه استثمار الوقت في تقديم المساعدة؟! أليس ذلك هو الأولى من أن يضع صوته على التسجيل باعتباره معلقا فذا على الحدث، ومن إظهار البراعة في اختيار زاوية توثيق المشهد بشكل يكون أكثر وضوحا وصالحا للنشر؟!
ندرك أن الموضوع يحتمل أكثر من وجه؛ فهناك العديد من "الفيديوهات" التي صُورت بهدف توثيق الخطأ، ولفت الانتباه إلى قضية ما تستدعي تجييش الرأي العام لمعالجتها والتصدي لها. وضمن ذلك يأتي توثيق مجازر الحروب وفظائعها، والذي كانت له نتائج كبيرة وبالغة الأهمية، تستلزم رفع القبعات لأصحابها.
لكننا هنا نتحدث عن مئات بل آلاف الفيديوهات التي يكون هدفها تسجيل المواقف المؤلمة والمحرجة وغير الإنسانية، فقط للاستفادة من نشرها.
برأيكم، كم "لايك" أو "شير" يستحق فيديو مدمرا ومؤذيا نفسيا ومعنويا، وخاليا من كل المعايير الأخلاقية في زمن تكنولوجي يوثق "اللحظة" إلى الأبد، كما الشعور بألمها؟!