توحيد عقل الدولة

أصعب ما نعانيه اليوم، هو ملامح وبوادر ضياع الدولة وهيبتها في عيون المجتمع، كما يقول سياسي مخضرم. ومصدر ذلك فجوة الثقة التي توسعت إلى درجة لم يعد معها ثمة حساب لأي شيء كان!اضافة اعلان
وفقدان الثقة واستمرار النزف مما بقي من رصيدها، ينذر بتحولات خطيرة، تستوجب وضع رؤية لاستعادة ولو جزء يسير من الثقة التي ضاعت. والهدف من ذلك محاولة إعادة الأمور إلى نصابها، للخروج من حالة الفوضى التي يعيشها المجتمع.
عقل الدولة يسأل، والجميع كذلك: ما الذي حل بنا؟ وما الذي جرى؟ وكيف وصلنا إلى هذه الدرجة من الغضب وعدم الرضا؟
الجواب يكمن بين ثنايا السنوات الماضية وما نجم عنها، وأيضا في طريقة التعاطي الرسمي مع المطالب الإصلاحية، وتحديدا في سياسة الممانعة الرسمية التي اضطرت الدولة إلى تقديم تنازلات لإرضاء المطالب الشعبية.
بيد أن مراجعة العام ونيف، والتدقيق في الأحوال، يضطرنا إلى سرد بعض الأخطاء التي ضاعفت من سوء حالة الثقة، وأهمها شكل إدارة محاربة الفساد؛ لناحية تعدد الجهات المعنية بمحاربته، وضعف إمكاناتها، وأحكامها السريعة التي تقدم إلى مجتمع متعطش لمحاسبة الفاسدين، وتأثير ذلك على قناعات الناس.
وأخطر ما يلف هذه السياسة نتائجها غير المرئية، والتي لم تتوصل حتى اليوم إلى شيء ملموس، وجعلت البلد يدور في دائرة مغلقة في الحديث عن محاربة الفساد.
والخشية هنا أن يأتي يوم يفقد فيه المجتمع الثقة بسياسة محاربة الفساد والجهات القائمة على ذلك.
وتجفيف هذه المخاوف يتطلب معالجة واحدة للتدقيق والتحقيق وإعلان الحكم، بالبراءة أو بالإدانة، من قبل القضاء المدني.
المسألة الأخرى المقلقة تتعلق بكيفية التعامل مع الحراك الإصلاحي في العاصمة وفي المحافظات. وهذا الوضع في غاية الحساسية. فتوقيف الشباب قد يجلب نتائج أقل ما يقال عنها إنها متناقضة؛ فإما أن يترك لهم العنان، وفي هذا قفز عن القانون ودولته، وإما أن يضاعف حالة الغضب، ولهذا أيضا محاذيره.
ومحاسبة الشباب عن أخطاء ارتكبوها ضرورة حتى لا تتحول المطالبة بالحرية إلى مسرح للفوضى، شريطة أن تتم المعالجة بعيدا عن النظرة العرفية، بحيث تتم محاسبة من أخطأ وفق القوانين والتشريعات المدنية وأمام القضاء المدني.
هذه النقطة تفتح الباب للحديث عن قضية أخرى لربما لعبت دورا في تعميق أزمة الثقة التي يشكل تشظيها أزمة كبيرة توسع مدى مشاكل أخرى، وتحديدا ما يتعلق بتراجع سقف الحريات خلال الفترة الماضية.
المهم في كل ما سبق أن استعادة ولو جزء من الثقة بحاجة إلى إعادة ترسيم حدود العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفق أسس ومعايير واضحة، تسهم في الرد على بعض الانطباعات والقناعات التي تكرست خلال الفترة الماضية.
أبرز هذه الانطباعات تلك التي تتعلق بجدية نوايا الإصلاح، ومحاربة الفساد بعيدا عن تصفية الحسابات والأجندات الخاصة، وفق قناعة راسخة لا تنازل عنها، فحواها أن الاعتداء على المال العام وحقوق البلد مرفوض، ومحاسبة من اعتدى واجب.
والنجاح في هذه الخطوة بحاجة إلى فريق منسجم في الدولة وفي جميع مراكز القوى، حتى يؤدي الانسجام إلى سياسة واحدة حريصة على البلد، ومدركة لأهمية الإصلاح، لاتخاذ قرارات مصيرية كسبيل لعبور المرحلة الراهنة الحساسة.
وتوحيد القوى لا يتطلب قرارات عرفية، تسعى إلى ضرب الحراك في مقتل، بل تدعيم مسيرة الإصلاح بما يقويها ويمتن الدولة، ويسهم في استعادة جزء من الثقة التي ضاعت على مدى أعوام طويلة من إهمال الناس وقضاياهم.

[email protected]