تونس وشبح عودة النظام القديم

الزهور في فوهات البنادق في ثورة تونس 2011 - (أرشيفية)
الزهور في فوهات البنادق في ثورة تونس 2011 - (أرشيفية)
تيري بريزيون* – (أورينت 21) 14/1/2021 بدا رحيل بن علي مرادفاً لسقوط نظام استبدادي كان يعيش أيامه الأخيرة. ولكن، بعد عشر سنوات، تبدو الثورة المضادة على الأبواب. وباتت فكرة عودة النظام القديم حاضرة في النقاشات التي تدور في تونس، حتى أنها قد تدفع بالبعض إلى الاستسلام. * * * عندما رحل زين العابدين بن علي رفقة زوجته وابنه في 14 كانون الثاني (يناير) 2011 إلى المنفى، رحل معه نظام استبدادي بات غير شرعي. وحيّد اعتقال أفراد من عائلة طرابلسي -أقارب زوجة بن علي، ليلى طرابلسي- جماعة كانت تحتكر ثروة الدولة واقتصادها بحماية رئاسية منذ سنوات طويلة. وفتحت هذه الخاتمة التي لم تكن على بال أحد قبل ذلك التاريخ بأسابيع فقط، طريقاً نحو أفق ديمقراطي غير متوقع. والآن، بعد مرور عشر سنوات، ينظر الرأي العام التونسي والمتابعون بإحباط إلى ما آلت إليه هذه الثورة، ويحوم على تونس شبح عودة النظام القديم، حتى مع أن البلاد نجت من القمع الشرس الذي طال الحركات الديمقراطية في بلدان عربية أخرى. شيئا فشيئا، استعاد موظفون ومسؤولون ووزراء من النظام القديم مكانهم في دوائر السلطة. وانخرط أعضاء التجمع الدستوري الديمقراطي -الحزب الحاكم في زمن بن علي والذي تم حلّه سنة 2011- في الأحزاب السياسية الجديدة. كما صار التحسر على أيام ما قبل الثورة والحنين إلى بن علي شائعاً. الاندماج في القوالب الديمقراطية الجديدة يستفيد الحزب الدستوري الحر -الوريث الرئيسي للتجمع الدستوري الديمقراطي، بقيادة عبير موسى، وهي كاتبة عامة مساعدة سابقة في حزب بن علي- من تدهور ظروف الحياة والفوضى وتراجع الإحساس بالأمن والأزمة الاقتصادية وفضائح الفساد. ويؤكد هذا الحزب حسب استطلاعات الرأي العام ووسط طبقة سياسية فاقدة للثقة، نوايا التصويت، التي وصلت إلى نسبة 38 % في كانون الأول (ديسمبر) 2020، بعيداً عما تتمتع به حركة النهضة (19 %). ويبدو الحزب الدستوري الحر ملاذا وقوة تجددت بسبب إخفاق عشر سنوات من الديمقراطية في تحقيق وعود الإصلاحات والعدالة الاجتماعية والنزاهة. لكن علينا أن نذكر هنا أن ثلاثة أرباع الذين أدلوا بآرائهم في الاستطلاع نفسه لا يتعاطفون مع أي حزب، ما يعني مستقبل السياسة التونسية ما يزال مجهولاً إلى حد كبير. هذه السردية التي ترتكز على منطقين -منطق الثورة ومنطق عودة النظام السابق- والتي قد يسرع البعض إلى وصمها بالإخفاق، تصوغ تصوراً للواقع. فقوة استحضار مصطلحي "الثورة" و"العودة" -القطيعة وقلب النظام الاجتماعي بالنسبة للأول، واسترجاع النظام السابق بشخصياته ومنظماته وممارساته بالنسبة للثاني- تحول دون فهم تطور أكثر تعقيدا. لقد ترك بن علي وراءه العناصر المادية للنظام الذي ترأسه، أي نخبة إدارية وشبكات ومنظمات ونظاما قضائيا وجهازا أمنيا ووسائل إعلام ومحتكرين اقتصاديين. وقد فقد هؤلاء شرعيتهم بطريقة عنيفة بادئ الأمر، وهم الآن يتفاوضون على إعادة إدماجهم في الأطر الديمقراطية الجديدة. يبدو هنا مصطلح الصمود -عوضا عن العودة- والذي نستعيره من علم النفس بعد أن أصبح كثير الاستعمال اليوم، ملائما أكثر لوصف هذه القدرة على التجسد في واقع جديد. وحتى الصورة التقليدية لتحالف بين الشق الإصلاحي للنظام القديم والعناصر الأكثر براغماتية من النخب الجديدة، والذي يكرّس لفكرة استمرارية بين الديكتاتورية والديمقراطية، لا تترجم حقا عن هذا التهجين وعن جميع الاحتمالات التي يضعها. ثقل الدستورية أحكم النظام القديم قبضته على الجديد في البداية عندما طوّق بالدستورية منذ شباط (فبراير) 2011 ثورة اجتماعية انطلقت من الجهات المهمشة. ويرتكز هذا التوجه على فكرة تغيير المجتمع من فوق وبواسطة القانون. ويشرع هذا الانحياز المطلق للنص القانوني والمستمر على الأقل منذ محاولات إصلاح حكم البايات الملكي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الدور المركزي لنخبة من رجال القانون في كتابة التاريخ الوطني. كما يهمش -أو ينزع حتى أي شرعية- عن طرق تنظيم المجتمع. وكانت الدستورية حجر زاوية الحركة الوطنية الدستورية والنظام من 1956 إلى 2011. لقد أبطأت كتابة دستور جديد كرد على مطالبات 2011 تطور ضمير سياسي وقدرة الشباب المتمرد على التنظيم، والذي دُعي للعودة إلى مناطق عيشه بعد انتهاء اعتصام حيّ القصبة. ودخلت الطبقة السياسية الجديدة بدورها قالب الدستورية، في تحديث للهرمية الاجتماعية القديمة. بعد أن أزاحهم المجلس التأسيسي (2011-2014) عن المشهد، استرجع خبراء القانون الدستوري مع الأزمة السياسية قدرتهم على التأثير. وقد اختزل هذا التركيز على سلاح القانون مسألة حلّ الكسور والتهميش الإقليمي والاجتماعي والمواطني والثقافي في بعدها التقني. كما سمح بالمحافظة على مجموعة اجتماعية لم تكن تزكي بالضرورة نظام بن علي، لكنها على صلة وثيقة بالدولة وتشغل مناصب في السلطة. السباق إلى الوسط أرسى النظام الديمقراطي تعددية حزبية حقيقية تسمح بالتداول على السلطة بين أغلبية حاكمة ومعارضة. لكن الخصومات السياسية تعني بالنسبة للكثيرين انقسام البلاد وتهديدا للدولة. ولذا، أصبح هناك غلو في الثناء على "الوسط"، واختزلت ممارسة السلطة في اختيارات تقنية غير مسيَّسة. كان الحزب الحاكم في زمن بورقيبة، كما في زمن بن علي، تجسيداً لهذه "الوسطية"، وكان النظام يستعمل النقيضين (اليسار الماركسي من جهة، والإسلاموية من جهة أخرى) ليثني على اعتداله، حتى لو تطلب الأمر الارتكاز على طرف لمكافحة الآخر. منذ العام 2011 والسباق مفتوح لإعادة بناء هذا الوسط الذي تعود إليه طبيعياً ممارسة السلطة. وتحاول حركة النهضة جاهدة باسم التوافق أن تقدم نفسها كحركة وسطية إسلاموية-دستورية، قادرة على تحقيق التوازن بين الثوريين والثورة المضادة. لكن الحزب منبوذ من قبل النخب الإدارية والفكرية والإعلامية، كما يعوقه سياق جيوسياسي غير ملائم، فضلاً عن عجزه عن توسيع قاعدة ناخبيه. ومن جهته، يبدو الحزب الدستوري الحر في وضع أفضل لتعبئة القاعدة الاجتماعية للنظام القديم واحتكار الدفاع عن النمط المجتمعي "الحداثي" الذي يهدده "الإسلام السياسي". وهي فزاعة بنى عليها التجمع الدستوري الديمقراطي شرعيته. قبل 2011، كان بناء الدولة والدفاع عنها هما القيمة العليا. لكن سيادة الشعب قلبت ميزان القيم. وباتت تحركات الدولة مقيّدة بمبادئ احترام حقوق الإنسان وبضغط المواطنين. أما في النظام القديم، فقد كان "الشعب" مجموعة مبهمة، ولم تكن الجماهير "الفظة" -على حد تعبير الرئيس السابق الحبيب بورقيبة- ترقى إلى مستوى هذا "الشعب" النظري. تفتح عدم كفاءة المؤسسات الجديدة المجال واسعا أمام عودة مسؤولي النظام القديم باسم الدفاع عن الدولة. ولو نجح الحزب الدستوري الحر في تحقيق أغلبية خلال الانتخابات المقبلة، فسيتمكن من اللعب على حبلين؛ حبل سيادة الشعب وحبل أسبقية دور الدولة. لكنه سيواجه الضغوطات نفسها. كان النظام السابق يرتكز على جهاز أمني وعلى تمشيط المجتمع من قبل التجمع الدستوري الديمقراطي. وقد شهدت المؤسسة الأمنية التي كانت تحظى بسلطة ممتدة والتي يُفترض اليوم أن تقبل بضوابط جديدة، انضمام عدو الأمس إلى صفوفها -أي الإسلاميين. كما أنها لا تقبل النقد الذي أصبحت تتلقاه من الشعب ومن المنظمات التي كانت الشرطة تقمعها بالأمس فقط. وترفض المؤسسة الأمنية أن تتحمل مسؤولية الجرائم التي اقترفتها زمن الديكتاتورية وتقوم بابتزاز المسؤولين السياسيين منذ العام 2011 للإفلات من العقاب. وتحاول النقابات الأمنية منذ أعوام -ولكن من دون جدوى- تمرير مشروع قانون لـ"حماية" قوات الأمن من النقد والإفلات من المحاسبة. يرى جزء من الجهاز الأمني في الحزب الدستوري الحر إمكانية استعادة علاقته العضوية بالسلطة السياسية، ومن خلال ذلك استعادة قدرته المطلقة. وقد مكنت عودة الدولة الأمنية جراء العمليات الإرهابية من التسامح نوعاً ما مع تواصل ممارسات قديمة (المداهمات الجماعية والمضايقات والتعذيب). لكنها أعادت من جهة أخرى النظر في أولوياتها، التي لم تعد الدفاع عن السلطة ضد المعارضين، بل إخفاق المخاطر المنظمة والعابرة للدول. إعادة تموضع كبار رجال الأعمال بلغ تواطؤ السلطة السياسية مع دوائر الأعمال ذروته تحت رئاسة بن علي. وقد استقرت العائلات الكبرى المحتكرة، والتي تعود نشأة بعضها إلى القرن التاسع عشر، في موضعها بفضل الحماية الرئاسية، مقابل تزكيتها للنظام. ولكن كان عليها أن تترك عائلة طرابلسي تغنم القطاعات الأكثر ربحا. وتمت مصادرة 220 شركة تابعة لعائلة بن علي غداة سقوطه، واتُّهم عديد رجال الأعمال بالإثراء غير المشروع. يتخذ التغيير الذي أطلقه سقوط بن علي مسارات متعددة بحسب المجالات، وتبقى التشعبات ممكنة دائماً. وسواء كان الخطاب حول عودة النظام القديم منذِرا أو محبَطا أو نابعا من شعور بالحنين، فإنه يسهم في صنع فكر الاستسلام، ويهيئ العقول -بطريقة إرادية أم لا- لمشروع سياسي يهدف إلى التحكم في مختلف مجالات السلطة. لكن هذا المشروع مجبر اليوم على التعامل مع واقع جديد: سلطات اجتماعية وإعلامية مضادة، وشخصيات فردية غيرتها تجربة النشاط المواطني ومعرفة أوسع بمقاليد السلطة. *صحفي ومراسل فرنسي يعمل من تونساضافة اعلان