ثالوث الحوكمة وعقلانيتها

أحمد عبدالحق*

في ورقته النقاشية السادسة، يُركّز جلالة الملك عبدالله الثاني على سيادة القانون كضامن للحقوق الفردية والعامة، وكعماد للدولة المدنية، تُبنى على أساسه الديمقراطيات والاقتصادات المزدهرة والمجتمعات المنتجة. وتأتي الورقة الملكية تتويجاً لعصف فكري وأيديولوجي رافق الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي شهدت فيها الصالونات السياسية، وبشكل خاص صالونات التواصل الاجتماعي الإلكترونية، إن جاز التعبير، كمّاً هائلاً من التجاذبات السياسية التي تراوحت ما بين تعليقات أكاديمية مدروسة تستند إلى بحث وتمحيص، وما بين لغو. وانخرط العديد من المهتمين، القديمين والجدد، في حوارات ومناكفات حول مفهوم الدولة المدنية وعلاقتها بالعلمانية. وخلط بعضهم ما بين الأيديولوجيا والمنهجية.اضافة اعلان
وبدا واضحا أن قلة من المساهمين في تلك الحوارات لم تكلّف نفسها عناء البحث ولا السؤال، فاعتبرت المدنية والعلمانية وجهين لعملة واحدة، ورديفين للإلحاد ورجسا من عمل الشيطان. وبالغ البعض فدعا، من دون علم ولا اطلاع، إلى تكفير كل من نادى بالعلمانية، واعتباره مرتداً ينبغي رجمه. ولجأت الغالبية، كما يبدو، إلى المراجع "العنكبوتية"، بغثها وسمينها، للبحث عن المدنية والعلمانية، فخلصت إلى قوالب جاهزة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تنظر إلى العلمانية والمدنية كمفاهيم فيزيائية جامدة، أو معادلات رياضية ثابتة وواضحة المعالم.
لا بُد لطالب المعرفة من التعامل مع ثلاثة مفاهيم ومناهج تتداخل وتتقاطع، بتباعد حيناً وبحميمية أحيانا، لتصب في نهاية الأمر في ما يمكن أن يكون أنموذجا للحكم الرشيد، أو الحوكمة العقلانية.
الدولة المدنية
المفهوم الأول يتعلق بالدولة المدنية التي ترتكز، بدورها، على مرتكزات ثلاثة، لا يمكن لها الخلاص من دونها مجتمعة؛ فإذا غاب أحدها انهارت مدنيّتُها.
أولها، مبدأ المواطنة، حيث الفرد مواطن كامل ونهائي، بغض النظر عن جنسه أو لونه أو عرقه أو أصله أو معتقده أو قدراته. وإذا غابت المواطنة، تحول الأفراد إلى رعايا مصنفين بدرجات متفاوتة، ونخب متباينة.
ثانيها، مبدأ سيادة القانون، الذي إن غاب، أودى بالكيان المجتمعي إلى مستنقع الفوضى والفساد والمحسوبية والبلطجة. وهذا المرتكز يستوجب، بالضرورة، المرتكز الثالث، وهو مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات. فالوصول إلى الدولة المدنية -ليس باعتبارها نقيضاً للدولة العسكرية أو الكهنوتية أو القبلية، وإنما باعتبارها نقيضاً لدولة الغاب- لا يستدعي فقط سيادة القانون، وإنما أن يكون القانون، أساساً، عادلاً بذاته. فسيادة القانون لا تعني عدالته، وقوانين الغاب إن وجدت، تُفصّل على مقاس القوي. ولعل في جنوب أفريقيا سابقاً، وإسرائيل حالياً، خير أمثلة على سيادة القانون وتطبيقه بحزم في كيانات تُغيّب المساواة بين مواطنيها، و تُميّز قوانينُها بينهم وفقا للونهم وعرقهم أو ديانتهم.
وهذه المرتكزات الثلاثة متداخلة ومترابطة. فلا يمكن أن تكون المواطنة كاملة وناجزة، من دون مساواة؛ ولا يمكن لمواطنة كاملة ومساواة حقيقية أن تعيشا في ظل غياب سيادة القانون الذي هو عماد الدولة المدنية.
ولكي يكون القانون عادلاً، فلا بد له من الاستناد إلى تشريعات يُشرّعها الناسُ بأنفسهم من مصادر متنوعة، ولكن غير مُلزمة، في ظل عقد اجتماعي توافقي، أي الدستور. ولا يمكن للعدالة أن تتحقق إذا ما كانت التشريعات جاهزة ومُقولبة وغير قابلة للتغيير أو التطوير، لا حول للناس فيها ولا قوة.
العلمانية
إن سيطرة التشريعات الجاهزة، الغيبية الكهنوتية، على مفاصل التشريع وحركة الحياة في أوروبا ما قبل الثورة الفرنسية، كانت السبب المباشر في استدعاء النهج العلماني كآلية لإدارة الحكم العقلاني الرشيد.
لكن العلمانية، بمفاهيمها الأولى، تعود بجذورها إلى فلاسفة الإغريق والرومان، كأبيقور وارتيليوس، الذين فشلوا، كلٌ في مكانه وزمانه، في الحصول على إجابات مقنعة عن الأسئلة الأولى، ولكنهم اتفقوا (أيضا كلٌ في مكانه وزمانه) على ضرورة تغليب العقل والاستناد إلى العلم ورفض الفكر الغيبي، من ناحية؛ وعلى حق الإنسان، من ناحية أخرى، في "السعادة"، أو كما سمّوها "اللذة"، من دون تأثير من قوى خارقة غير مرئية.
لكن العلمانية لم تتبلور كنهج إلا إبّان عصر التنوير الأوروبي الذي سبق الثورة الفرنسية ومهّد لها من خلال طروحات فلاسفة عمالقة من حجم جون لوك وفولتير وجان جاك روسو. وبرغم النجاح الكبير الذي حققته الثورة الفرنسية، إلا أن حدة الصراع بين الكنيسة، بسطوتها وصكوكها وتغوّلها ورجالها الذين كانوا يضربون بسيف الله ويمنحون ويمنعون باسمه، وبين مناوئيها من رجال العلم والمصلحين الاجتماعيين، لم تَخفّ، وظل العديد من الدول الأوروبية رهينة بيد الرهبان والقساوسة حتى أواخر القرن التاسع عشر، ولم تتمكن العلمانية من فرض نفسها إلا عندما اعتُمدت، ولو بشكل غير مباشر، كمتطلب من متطلبات التحقق الديمقراطي.
وأول من استحدث تعبير "العلمانية" كان الفيلسوف البريطاني جورج هولي أوك (1817-1906)، الذي دعا إلى التطور المجتمعي بعيدا عن سلطة الكنيسة، ولكنه لم يكن متحمساً لمهاجمتها (أي الكنيسة) من دون داع، ولم يكن يرى ضرورة للخوض في المسألة الدينية أساساً. وكان لآخرين، من أمثال الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل، الذي توفي في سبعينيات القرن الماضي، باع طويلة في ترسيخ العلمانية كنهج غير معني بالفكر البحت. ولم يكن مفكرونا العرب، من أمثال محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي، بعيدين عن هذه المعضلات، فتصدوا لها وحققوا بعضاً من النجاح، وإن كان قصير الأمد.
مع نمو الديمقراطية كناظم للعمل السياسي، وضامن لحكم الناس لأنفسهم في العديد من الدول الأوروبية، أخذت العلمانية تفرض نفسها بطبائع الأمور؛ فالديمقراطية الحقّة لا يمكن أن تتحقق من دون علمانية. وهكذا استوعبت النظم الديمقراطية، بحكم الواقع ومن دون ضجيج، النهج العلماني كضامن لخيارات الناس الدنيوية، وابتعدت الكنيسة عن لعب دور مؤثر في الحياة السياسية، لكن من دون خروج كامل من الحياة المجتمعية.
ولأن انتهاج العلمانية لا يشترط تحقق الديمقراطية، فإن التطور الطبيعي لنمو الحاكمية في ظل النهج العلماني لم يتحقق في كل مكان، إذ فُرضت العلمانية، بصورة مشوّهة، بقوة النار والحديد في العديد من أنظمة الحكم الشمولي التي انهارت مع انهيار المعسكر الشرقي في العقد الأخير من القرن الماضي، وفي بعض دول العالم الثالث وعلى رأسها نظام فيدل كاسترو في كوبا وأنظمة "البعث" في المشرق العربي.
قد يساهم الاتفاق على بعض المفاهيم وتوصيفها، في الوصول إلى قواعد مشتركة يتم الانطلاق منها نحو بلورة مفهوم ناضج لمبدأ العلمانية.
ولعلنا نتفق، أولاً، على أننا غير ملزمين بتعريفات ثابتة وجامدة للعلمانية، أياً كان مصدر هذه التعريفات وعمرها؛ فالعلمانية مفهوم ديناميكي مطواع قابل للتطور، ومُراعٍ  للمحليّة، ولا ينبغي أن تحاكم علمانيتنا بقربها من، أو ابتعادها عن، العلمانية في أوروبا أو غيرها من بقاع الأرض. وإذا قال قائل إن هذه، إذن، ليست العلمانية، فليكن؛ وليسمها ما شاء.
ولعلنا نتفق، ثانياً، على أن العلمانية، كما الديمقراطية، ليست فكراً ولا عقيدة ولا أيديولوجيا، وليست معنية بالتوجهات السياسية ولا بالمعتقد ولا بالدين. إنها، ببساطة، آلية/ ميكانيزم، لجعل التشريع، ومن ثم الحكم، أكثر عدلاً وتمثيلاً لمصالح المواطنين.
وهذا يعني أن العلمانية، كما الديمقراطية، لا يمكن تحديدها ضمن إطار سياسي. إذ يمكن لأحزاب مغرقة في يمينيتها أن تكون علمانية وديمقراطية، مثل شقيقاتها الأحزاب المتطرفة في يساريتها في المنظومة السياسية نفسها. ولعل في حزب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، اليميني؛ حزب الجمهوريين، وخليفته في الحكم؛ الحزب الاشتراكي بزعامة الرئيس الحالي فرانسوا أولاند، أوضح مثال.
وكما أنه ليس المطلوب من الديمقراطية أن تمتلك، بالضرورة، إجابات واضحة عن كل الأسئلة المطروحة، فإن العلمانية ليست معنية بتقديم إجابات تتعلق بالأيديولوجيا أو بأي أمر يبتعد عن دورها كناظم للعمل التشريعي.
إن العلمانية ليست مطالبة بتقديم أوراق اعتمادها لأحد، ولا تبحث عن شرعية تُمكّنها من طرح نفسها؛ فقوتها في ذاتها وجوهرها وكينونتها. والعلمانية، كغيرها من الآليات، ليست مطالبة بالإجابة عن الأسئلة الأولى، وهي لا تهدف إلى إثبات مقولات ونفي أخرى.
وبالتتابع، ووفقا للفهم الآنف، يمكن دحض المقولات الساذجة التي تتهم العلمانية بأنها كانت وراء الحروب العالمية التي قتل فيها عشرات الملايين من البشر، أو قتل مئات الملايين على يد الثورات الشيوعية في روسيا والصين، أو أنها هي من هدمت الأسرة... فألمانيا النازية لم تقدم على ما أقدمت عليه باعتبارها بلدا علمانيا، ولم يعتبرها الآخرون كذلك. والاتحاد السوفيتي لم يفعل ما فعل بداعي العلمانية، وبريطانيا بلفور وأوروبا القرن العشرين لم تحتضن الصهيونية بحاضنة علمانية.
أما علاقة العلمانية بالدين، وهي مربط الفرس، فلا غموض فيها ولا اشتباه، إلا في ذهن من أخذ الغث وترك السمين. إذ تقوم العلمانية على مبدأين أساسيين:
- حصر التشريع بالمُشرّع المُنتخب عدلا ونزاهة؛
- المساواة بين الناس أمام القانون بغض النظر عن ديانتهم ومعتقدهم.
وبهذا تتقاطع العلمانية مع مدنية الدولة.
فالمبدأ الأول يعني:
* رفض أن يكون الدين أو العُرف أو العشيرة أو الموروث... إلخ، مصدراً "مُلزماً" للتشريع.
* أن صاحب الحق في التشريع هو، حصراً، المُشرّع المدني المُنتخب، عدلاً ونزاهةَ، وفق عقد اجتماعي توافقي يمثله الدستور، وبناء على عملية تشارُكيّة تستند إلى قوانين عادلة ومتوافق عليها.
أي إن التشريع يجب أن يكون موضوعاً، لا ُمنزلاً أو موروثاً. وأن يكون موضوعا من قبل مشرّعين منتخبين.
بالتتابع:
* لا ينبغي الخضوع لأي تشريعات غير موضوعة.
* إن التعاليم الدينية، أو الأعراف العشائرية، أو التقاليد المجتمعية... إلخ، لا يمكن أن تقنّن إلا إذا شُرّعت مدنيا. وهذا يعني أن لا قوة قانونية لأي تشريعات، مهما كان مصدرها، لا تأتي عبر مجلس تشريعي منتخب.
* إن الأديان والأعراف والتقاليد يُمكن، إذا شاء المشُرّع المنتخب، أي إذا شاء الناخبون، أن تكون من مصادر التشريع.
وبالتالي:
* إن العلمانية تلغي أي امتيازات أو استثناءات تقوم على أساس ديني. فالدين، في مفهوم العلمانية، مسألة متعلقة بالفرد لا بالمجموع.
* وبالقياس، تلغي العلمانية أي امتيازات أو استثناءات تقوم على أسس عشائرية أو جهوية أو عرقية أو مناطقية.
وبالعودة إلى مربط الفرس: فإن العلمانية، بكلام لا لبس فيه، ليست معنية بالخوض في الشأن الديني، لا سلباً ولا إيجاباً. وهي بذلك ليست ضد الدين، ولكنها تدعو إلى فصله عن الحكم والتشريع. وهذا الفصل لا يعني محاربة الدين ولا مساءلة الناس في معتقداتهم؛ فالعلمانية تؤكد على حق الناس في اختيار عقيدتهم وممارسة شعائرهم الدينية، شريطة عدم التأثير على التزاماتهم وواجباتهم تجاه الفرد أو المجموع، وعدم المساس بحقوق الآخرين أو التدخل في حياتهم، وعدم مخالفة القانون. أي إن للمتدين، مثلا، أن يصوم أو أن يصلي لأن التشريعات الموضوعة لا تمنع ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يتزوج بزوجة ثانية إذا كان ذلك مخالفا للقانون الموضوع. واسترسالاً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن العلمانية لا تقبل أن يفرض صاحب العمل، بالترغيب أو الترهيب، زياً معيناً، يستند إلى اعتبارات دينية، على موظفيه، خلافاً لرغبتهم.
ويمكن لمن يؤمن بهذا الفصل، ولو كان شيخا من مشايخ الأزهر أو كاهناً من كهنة الكنيسة الكاثوليكية، أن يكون علمانياً. ولعلنا نتذكر أن الإمام الصادق المهدي؛ زعيم طائفة الأنصار وإمام المهدية ورئيس وزراء السودان الأسبق، كان من أبرز الأمثلة على الشيوخ العلمانيين في رفضه تطبيق الشريعة الإسلامية من دون تشريع مدني.
أما المبدأ الثاني الذي يلتقي مع مرتكزات الدولة المدنية، فيعني أن الناس متساوون أمام القانون بغض النظر عن ديانتهم ومعتقدهم وعشيرتهم ولونهم ولهجتهم وميولهم وجنسهم... إلخ. فعلى سبيل المثال، ترى العلمانية أن من حق المواطن، في الأردن مثلاً، أن يكون رئيسا للوزراء بغض النظر عن ديانته. ومن حق المرأة أن تكون مساوية للرجل في كل ما يتفق، علمياً، وتباينهما الفسيولوجي.
العلمانية وعلاقتها بالديمقراطية
لا تحتاج الديمقراطية إلى عناء في تعريفها. فهي، ببساطة: حكم الناس لأنفسهم عبر ممثلين منتخبين عدلا ونزاهة، مع حفظ حقوق الأقليات. والديمقراطية ليست شرطاً من شروط العلمانية. فيمكن للأخيرة أن تتحقق من دون ديمقراطية، مثل دول المعسكر السوفيتي، ودول البعث في المشرق العربي. لكن، في المقابل، لا تتحقق الديمقراطية الحقة من دون نهج علماني، وإلا تحولت إلى ديمقراطية اللون الواحد، كما هي الحال في إيران اليوم.
في غياب العلمانية، ممارسة، قد ينشأ تحالف بين حكم سياسي مستبد وبين رجال الكهنوت. وفي هكذا تحالف يستخدم الحكم المستبد رجال الدين لاكتساب "شرعية سماوية" ترسّخ سلطته، وتفتح الطريق أمامه لتبرير سياساته وتغطية جرائمه، فيما لرجال الدين الحظوة والمال والجاه. ولا تكاد دولة عربية واحدة تخلو من تحالفات من هذا الطراز.
لا يمكن للديمقراطية الحقة أن تتحقق من دون علمانية. وكلا المنهجين ضروري للدولة المدنية المنشودة.

*طبيب وأستاذ جامعي أردني مقيم في أيرلندا