ثانوية طليطلة

لن يخطر ببال واحدة ممن قدمن إلى اجتماع بنات المدرسة، أنها وحين تدلف باب المطعم الجميل ذي التصاميم الكلاسيكية، أنها على موعد مع حصة أولى كانت قد تخلفت عنها قبل عقود من الزمن، وآن الأوان لكي تعوضها اليوم بالحضور الكامل!اضافة اعلان
شعور لا يمكن وصفه حين تضطر إلى أن تعود أدراجك بالسنين، عشرين أو ثلاثين عاما مرة واحدة، وتطالب نفسك قبل الآخرين أن تكون العودة تلك، استعادة مكتملة العناصر لصوتك وألوانك وطريقة مشيك، فيما يزاحمك الآخرون أمنيتك، قبل أن تسلموا على بعض حتى، وتجلسوا بالصف الأول، جميعكم هذه المرة، ولو صار الزحام شديدا أمام السبورة !
نعم، كان درسا قاسيا لم نكترث لعنوانه أيام الفراغ، الذي كنا نعتقد أنه فراغ حقا. كانت فقرة الحضور والغياب تمر علينا مثل نكتة، نتجاسر على تفاصيلها كل حصة، حتى نهزأ ونضحك من فكرة أن تكون أو لا تكون. كان درسا علمتنا إياه الأيام في وقت متأخر عن موعد الجرس؛ عليك أن تكون، وتكون جدا، وإلا فإنك سوف تغيب!
لا تزال البنات ينادين بعضهن بنات في حضرة المعلمات الجميلات، اللواتي أضاء حضورهن المكان نفسه، حيث اجتمعت زميلات المدرسة الثانوية، أيام عيشهن في دولة الكويت. الاجتماع الذي دعت له الطالبات في مجموعة خاصة لخريجات ثانوية “طليطلة”، في كافة أنحاء العالم، وقد نجحن فعلا في تحقيقه في أكثر من بقعة عبر القارات. وكنت محظوظة جدا، حين وجدتني أحضر واحدا من هذه اللقاءات عقد في القاهرة قبل أيام.
ولعل الفكرة من اجتماع زملاء واصدقاء الماضي، خصوصا لجيل السبعينيات والثمانينيات ، مهمة ومفصلية في حياة كل واحد تمكن من المشاركة، عبر لقاءات مماثلة أشاهد صورها في مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا. فكرة مهمة تعيد إلى الإنسان صوره القديمة التي لربما لم يعرفها ولم يشاهدها قبل اليوم، لأنها ببساطة محفوظة في ألبومات أناس آخرين، وفي ذاكرتهم هم، بعيدة ومتوارية عن مذكرات شخصية يكون فيها كل منا البطل الوحيد. ومفصلية لأن مراحل سياسية عميقة التأثير، عايشها سكان هذه الحقبة بالذات، ودون أن يدروا للأسف، أسست لعملية إعادة رسم الخرائط والأناشيد وألوان الأعلام فيما بعد لأوطان لفظت دفاتر مذكراتها، على أول شاطئ قابلته! إنما الداهية التي لم يفطن إليها راسمو الخرائط الجدد، أن مواطنين فرحين ومطمئنين، وثّقوا لتلك الأوطان أعمالا خيرية غاية في الروعة، كان لها أن تستمر وتكبر وتعمر. شاهدنا ذلك كما شاهده زملاء الماضي في أماكن عدة، بأمهات أعيننا، صورا محفوظة توثق لطابور الصباح، وعنوان الدرس المكتوب على رأس السبورة، والتاريخين الهجري والميلادي يتنازعان طرف اللوح، كل مرة بخط مختلف، لكن لم يتعرض للتهكم ولا مرة !
رأينا بكامل حسرتنا واندهاشنا في آن، احتفالات دينية مختلطة الأصول متباينة الاعتقاد، متعاكسة الأفكار، عبر مشاهد مصورة وبطاقات معايدة، أرخت لعنوان لطيف اسمه النوايا الحسنة. كانت أسماؤنا الأولى هي عناويننا الأصيلة، إلا إذا اقترنت بصفات هزلية، لم يدر بها أصحاب الأسماء أصلا!
تذكرنا الأغنيات واحتفالات الأعياد الوطنية. تحسرنا على أيام كنا نعتقد أنها آخر النكبات لمآس ارتبطت بالشعب الفلسطيني، على اعتبار أنهم الملاك الحصريون لقضية وحيدة. صارت الواحدة تذكر الأخرى بالعلم الأسود المعلق على حافة الشرفة، ولوحة القص واللصق لصور شهداء المجازر، وفقرة الدبكة في العيد الوطني، ويوم التبرع بمصروف الشهر وخواتم الأمهات.
وفي لحظة شرود جماعية، نظرنا كلنا إلى بعضنا وابتسمنا ابتسامات واهية، لاقتراب خروجنا من بقعة الضوء المسروقة. سنعود بعد قليل إلى عرباتنا المصطفة في الكراج، سعداء بقصص نجاحنا الصغيرة والمتشابهة جدا بعد أن سمعناها، نعبر ساعاتنا القادمة بانتشاء الصغيرات الشقيات، المحظيات بدفاتر الأوتوغراف صبيانية الملامح، وصور ليست باهتة أبدا ، واسم مدرسة يختصر الحكاية؛ “ثانوية طليطلة”!