ثقافة المصادفة

في كتابه "كلام في السياسة"، يتحدث الاستاذ محمد حسنين هيكل عن نوعين من الثقافة؛ الاول ثقافة المصادفة، والثاني ثقافة القانون. وقد جاء بهذا التصنيف وهو يتحدث عن قائد احد الانقلابات الثورية العربية الذي استولى على الحكم بسهولة ويسر، ويقول: "وحين تنجح اكثر المحاولات خطورة بأقل التضحيات تكلفة فإن محصلة التجربة تعطي الاحلام مساحة تتجاوز قدرة الحقائق على بلوغها، لأن ثقافة المصادفة تختلف تماما عن ثقافة القانون".

اضافة اعلان

لن نتحدث عن الثورات والثوريين، فقد انتهى هذا العصر، وسلم الكثيرون اوراق اعتمادهم الى "الامبريالية"، كما كان يقول اهل الثورة، لكن فكرة ثقافة المصادفة وثقافة القانون تصلح للفهم والتطبيق في مجالات عديدة. فثقافة المصادفة اختصار لأي مسار يحقق اهداف صاحبه خارج اطار القانون، وخارج اطار المسار السليم لتطور الاحداث والاشخاص، وهو ما نسميه احيانا الواسطة أو المحسوبية أو الوراثة السياسية واحتكار فئة لمواقع او فرص. القضية التي طرحها هيكل حول نجاح سهل، خلال بضع ساعات، في قلب نظام حكم والسيطرة على كل شيء بأقل الخسائر كانت في بلد بترولي، لكن المثال يصلح للتعميم في كل المجتمعات، ومنها مجتمعنا الاردني. تخيلوا الامثلة العديدة والكثيرة. فمثلا، اي ثقافة تلك التي تجعل شخصا ينتقل من عمله العادي في اي مكان الى امين عام فوزير لأكثر من مرة، ثم يغادر كل هذه المواقع متقاعدا وهو لم يكمل 35 عاما من عمره، دون ان يكون لهذا الشخص ابداع او عبقرية او انجاز خارق، او حتى اطار سياسي، وكل ما لديه علاقات و"صحبة" جعلته يشغل كل هذه المواقع وفق ثقافة المصادفة؟! وأي احساس بالموقع او تحضير له او قدرة على الانجاز؟! بينما قد يقضي مواطن آخر عشرين عاما في وظيفة في ذات القطاع او الوزارة، وبكفاءة وتأهيل لا يقل عن صاحب الصدفة، ويخرج من وظيفته رئيسا او مديرا لدائرة! ومشكلة هذا المواطن انه يمارس ثقافة القانون، وانتظار الترفيع الوجوبي والجوازي والعلاوة السنوية وزيادة رفع اسعار البترول.

ثقافة المصادفة تعني ان يعتقد اي شخص بإمكانية حصول اي شيء دون الحاجة الى ثقافة القانون والمنطق. والمشكلة ليست في حالات فردية، بل عندما تتوسع دائرة هذه الثقافة. والمشكلة الاكبر اذا كانت ممارسة ثقافة المصادفة في المفاصل الهامة والمواقع الكبرى، اي عندما يسود قانون التحزير. فإذا اصبح قانون المصادفة سائدا في تعيين وزير او مدير فهذا يعني تجاوزا "مؤسسيا" لحق القانون وسلطته. فالقانون ليس فيما يتعلق باستخدام حزام الامان، بل في الآلية التي تجعل من شخص وزيرا , مثلا ، بينما لا يتوقع احد حدوث الأمر، بمن في ذلك الشخص المختار واسرته.

وقانون المصادفة قد يتجاوز ثقافة القانون من خلال مخرجات عمليات "الكولسة" ومعادلات العلاقات والمصالح. فقد تقتضي مصالح فئة او مجموعة تجاوز منطق القانون والاسس، لتأتي بمن تعتقد ان وجوده يحافظ على مصالحها او يعززها. لهذا، تأتي التزكية والدعم ليس لأن فلانا صاحب كفاءة، بل لأن وجوده في موقع ما يخدم مجموعة المصالح. فالامر بالنسبة له يأتي وفق قانون المصادفة، لكنه بالنسبة للآخرين وفق قانون لا علاقة له بثقافة القانون. ومحصلة كل هذا على حساب الاداء العام؛ فمن يأتي وفق قانون المصادفة، حتى وان كان طيبا صاحب نوايا حسنة، فإنه يحتاج الى ان يتعلم ويتدرب على حساب مصالح الناس.

ما نتحدث عنه ليس مقتصرا على موقع او سلسلة مواقع، بل هو امر يمكن توفره في كل جوانب حياتنا. فقد يبتلى رجل او امرأة بشريك حياته وفق قانون المصادفة، غير أن "قانون" الطلاق والخُلع يكفل لكل منهما حل المشكلة، لكن كيف يتخلص مجتمع من طبقات مسؤولين تعاقبوا على مقاليد الامور، وبخاصة اذا غابت اسس الاصلاح وامكانياته؟!

[email protected]