ثقافة رعوية

(مفيش فايدة .. غطّيني يا صفيّة). هكذا خاطب سعد زغلول زوجته حين فقد كل أمل في نجاح المشروع الوطني.
وهذا ما يحدث الآن؛ ( لا فائدة ) .. ولا حتى صفيّة تغطّي ما تَكشَّف مِنّا ! اضافة اعلان
حنينٌ جارف يعيدنا الى ثقافتنا الرعوية، وخطابنا الشعبوي الذي لم ينتج للحضارة شيئاً ! في كل سنة نعود للوراء عشر سنوات، ونحطم بمعاولنا المسنونة كل حلم قد يحملنا إلى مصافّ الأمم المتحضّرة، وكأنَّنا نتوق الى جاهليتنا الأولى !
انهار حلمنا القومي، ثم انكمش مشروعنا الوطني، حتى صارت “الحارة” و”العشيرة” هي أيضاً مقسمة إلى بيوت صغيرة مكتفية بذاتها و “أناها” المريضة المتورّمة !
لم يترك “الحريق العربي” شيئاً لم يأتِ عليه.
لم يترك فكرةً مثالية، ولا بقرةً مقدسة، ولا تمثالاً معتدَّاً بحاله، بل حطَّم كل ذلك، وتركنا نعيد النظر كل ليلة في كل مثالياتنا، وجعل كل شيءٍ، كل شيء على الإطلاق عُرضةً للشكّْ وإعادة النظر فيه.
لم تعد هناك مُسلَّمات لدى العربي، كل شيء تحطَّم وسقط من عليائه الشاهقة، ولم تكن فكرة سقوط “الحاكم الديكتاتور” أعظم ما حدث في هذا “الحريق”، فقد سقط “المثقف” وسقطت “النخب” وسقط “الشِعر” وسقطت “الأيديولوجيا” وسقط “اليسار” وسقط “الوطن” وذُبِح “الدين” الذي دائماً ما أحيط بكل أشكال الحصانة!
كل ذلك سقط في الامتحان الصعب، ولم ينجُ شخصٌ أو فكرة، ولم تنفع “النظريات” التي تمترسنا وراءها عقودا طويلة في صدّ النار عن أثوابنا، وكل الكلام الذي انفقناه طيلة سنوات وعقود عن “افتداء الأوطان” و”الموت دونها” كان لَغواً لم يصمد أمام أول هبّة، فاشتبك “المواطن” مع “الوطن” في حربٍ أتت على كليهما !
لم يترك “الحريق العربي” بيتاً آمناً، لتدخله، فأنَّى أقمت أنت محاط بالشكوك والاتهامات الجاهزة، ولا يقين يكفيك، أو يكفي عائلتك لليلة واحدة !
لم يتآمر علينا أحد، ولم يركلنا أحد عن الحافة، ولم تنزلق أقدامنا الى خديعة أعدَّها خصم لدود، بل نحن، ونحن فقط من قفز إلى الجحيم بملء ساقيه، وبكامل جهله، وتخلّفه، ونحن من أعدم “العقل” في الساحات العامَّة، وأقام الاحتفالات لقطع الرؤوس، وباع النساء في الأسواق !
ولو أنَّ أحدا قال لنا قبل سنوات قليلة إن ذلك سيحدث في هذا العام لكان ذلك من شطحات الخيال “غير العلمي”، والتفكير المريض، .. لكنَّه يحدث، يحدث الآن بمنتهى الفانتازيا والغرابة؛ نساء تسبى وتباع في السوق! أي عقل سيفهم هذا العقلَ العربي والمسلم بعد ذلك ويقرأه ويحلّله لأجيالٍ تنتظر أن تَفهم !
كيف يعود التاريخ الى الوراء ألفي عام، ولا ينتقي من هناك غير أسواق النخاسة وسيوف الحديد والخطاب الهمجي الذي يجعل الانسان يقدَّر بعدد “الكيلوغرامات” !
وكلُّ ذلك حربٌ مع “طواحين هواء”، مع عدو مُتخيَّل، حربٌ تحكمها فكرة أننا “مُستهدفون”، رغم أننا في الحقيقة لسنا على بال أحد، والعالَم لديه من الانشغالات العلمية والأفكار الثمينة والمشاريع التي تخدم الإنسانية ما يجعلنا في ذيل اهتماماته، ولسنا على طاولة أبحاثه العلمية أبداً، لكنّنا نوشك ربما أن نصير، ككائنات غريبة تستحق الدراسة!
هذه الحروب؛ حروب “الحريق العربي”، هي حروبنا نحن، نحن من أشعلها ومَن يخوضها ومن يحترق بها، حروبنا التي تحرق اليابس واليابس .. حيث لا أخضر أبداً !