ثلاث أفكار في يوم الأرض..!

"... أنا الأرض// والأرضُ أنتِ// خديجةُ! لا تغلقي الباب// لا تدخلي في الغياب// سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل// سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل// سنطردهم من هواء الجليل" (من "قصيدة الأرض" لمحمود درويش).اضافة اعلان
ثلاث أفكار تقاطعت في الذهن في يوم الأرض: هذا المقطع من "قصيدة الأرض"؛ وعنوان غير شاعري على الإطلاق، "المصالحة الفلسطينية" أو "الخصام الفلسطيني"؛ ومقال نُشر الشهر الماضي للكاتب بول سكام، بعنوان "قوة إسرائيل الجيوسياسية غير المسبوقة".
المقطع من "قصيدة الأرض" مليء بالرجاء الذي لم ينقطع عند الفلسطينيين. لذلك يستعيده كل من يعرفه في يوم الأرض الأسيرة، مثلما يستعيد المرء قسَم المهنة عندما يغريه شيء بخيانة المبدأ. لكنّ هذا المقطع يغيِّر نغمته بتعاقب الأيام والفصول الفلسطينية. في لحظة، نقرؤه بلهجة الوعد الواثق الذي يطمئِن "خديجة" (الأرض والإنسان الفلسطينيين المتحدَين حدّ التماهي) إلى أنه لا حاجة لإغلاق الباب والدخول في الغياب، لأنّ الغزاة خارجون حتماً من الوطن. وفي لحظة أخرى أقلُّ وعداً، ربما نقرؤه بلهجة المتوسِّل المتشبث ببقايا ثقة رثَّة، علَّ "خديجة" لا تغلق الباب وتستسلم للغياب. ويكون الحديث عن طرد الغريب خفيض الصوت، وبنغمة تشبه السؤال أكثر من الجواب.
مما يشيع اللهجة الثانية اليائسة المتواطئة على الذات الفلسطينية في هذه الأوقات، عنوان "المصالحة الفلسطينية" الذي طال تردده في الأخبار حدَّ الملل، مؤكِّداً ابتعاد الفلسطينيين يومياً عن الأرض نتيجة لإفشال مشروعهم الوطني بالصراع الداخلي. ولا يتغير شيء في خبر "المصالحة" المكرور سوى اسم "راعي" المصالحة الجديد المستفيد من الدعاية واستغلال الأطراف حيث أمكن. والفكرة هي أن المسألة لا تحتاج إلى وسيط بين أصحاب النكبة المشتركة. ربما الحل ببساطة، أن يلقي هذا سلاحه وهذا سلاحه ويتعانقا، على أساس لا يقل عن المسافة بين الوطنية وخذلان الوطن: يا أخي، علامَ نتقاتل وأنا وأنت شركاء في البؤس والهزيمة، ومشروعات قتلى؟ كيف لا يوحدنا الألم، وبلدي بلدك وبوصلة قلبي وقلبك؟!
السبب الثالث الثقيل على الذات الفلسطينية في هذه الأوقات، هو الاسترخاء الذي يستمتع به مشروع الكيان الاحتلالي في فلسطين، مقابل الشدِّ الهائل الذي يعانيه فاقدو الأرض الفلسطينيون. ويجمل الكاتب بول سكام، مظاهر وأسباب استراحة العدو الاحتلالي في فلسطين المحتلة في بضع نقاط:
• إسرائيل هي الآن جزء لا يتجزأ من الوضع الإقليمي الراهن؛ فالحكومات العربية تريد الاستقرار أكثر من أي شيء آخر، وكذلك إسرائيل. وكان هذا هو الوضع السائد، على الأقل منذ مبادرة السلام العربية في العام 2003.
• أكثر الدول السُنّية أهمية في المنطقة ترى إسرائيل في الحقيقة كحليف بحكم الأمر الواقع. (...) ويعود ذلك في جزئه الأكبر إلى خوفٍ مشترك من إيران.
• أصبح أكثر من مرجح الآن -إذا كانت إيران قد شكلت حقاً أي تهديد وجودي- (لإسرائيل) أنها لن تكون كذلك في قادم السنوات. فهناك قتال يائس يجري داخل النخبة الإيرانية.
• تجعل الفوضى الإقليمية واسعة النطاق من إسرائيل قضية ثانوية. على سبيل المثال، لدى حزب الله آلاف الصواريخ موجهة إلى إسرائيل، لكنه منشغل تماماً بالحرب الأهلية السورية. وحتى من دون ذلك، كان هناك نوع من توازن رعب الحرب الباردة بين حزب الله وإسرائيل. ولا يريد الحزب أن يرى لبنان وهو يصبح مثل غزة.
• تتمتع إسرائيل الآن بمكانة اقتصادية لم يسبق لها مثيل. ويعني اكتشاف الغاز الطبيعي قبالة سواحلها، إلى جانب دورها كقوة تقنية، أن تكون لديها جيوب اقتصادية عميقة. (انتهى الاقتباس).
كيف يمكن أن يشعر الفلسطيني الآن في يوم الأرض مع هذه الشروط والأحوال؟ الأكيد الوحيد هو أن المشروع الوطني الفلسطيني لم يفلس، لأن أصحابه الحقيقيين يتوارثونه بطريقة قدَرية. لكنَّ هذا المشروع يتعطل ويتأجل، لأسباب ليس أقلها عنوان "المصالحة الفلسطينية" -بمعنى وجود خصام فلسطيني يخدم كل أحد وشيء إلا الفلسطينيين. وهناك أيضاً ما يتحدث عنه المقال المذكور من ازدهار العدو على حساب الذبول الفلسطيني والخذلان العربي.
لكن الفلسطينيين لا بُدَّ أن يرددوا -في كل الأحوال- حوارهم الوجودي مع "خديجة"، وأن يرفضوا إغلاق الباب والذهاب في الغياب ويحتفظوا بالرجاء، سواء قالوا ذلك بصوت راعد أو خفيض.