ثنائية الوحي وتفسير الوحي

يقف عبدالكريم سروش، في كتابه "الصراطات المستقيمة"، عند مسألة العلاقة بين الوحي وتفسيره. ويقدم بالقول إن القيم بطبيعتها متقاطعة؛ العدل والحرية على سبيل المثال، ويصل الأفراد والمجتمعات في نهاية المطاف إلى الاختيار. وهذا الاختيار لا يقوم على دليل وبرهان، بل على علة وسبب. وما دامت العلل والأسباب باقية، وما دام التعارض مستمراً، فإن التمييز بدوره باق أيضاً ومستمر.اضافة اعلان
عندما نرى مجتمعنا يتقبّل التعدديّة ببطء، ولا يتفاعل معها بسرعة، فإنّ ذلك بسبب ضعف التيار الفلسفي. يقول سروش: إنّ المعرفة الدينية هي السعي إلى فهم الشريعة. وهذا الفهم يُبنى على افتراضات مسبقة، ويستلزم تأطير الأفهام الجزئية في قوالب مفاهيم ومقولات عامة. وفهم الدين غير مستثنى من هذه القاعدة؛ إنه مسبوق ببعض الافتراضات والمبادئ التصورية والتصديقية، وهي تعتبر من الشروط اللازمة لفهم الدين وتفسير نصوصه ومتونه. هذه التصورات ليست مقدسة أو فوق مستوى النقد؛ إذ يمكننا وضعها على مشرحة النقد، وتعديلها. ولكن هناك أمران لا شك فيهما: وجود هذه التصورات قطعي وغير قابل للاجتناب؛ وهي مستقلة عن عالم التجربة، وتفرض تأثيراتها على نتائج التحقيق والدراسة.
النص بذاته صامت. وبما أنّ تفسير النص جمعي وقائم بمجموعة من المتخصصين؛ فهو موجود وسيّال ومتحوّل ومستقل من فرد إلى آخر من المفسرين، ويشمل الصحيح والسقيم، ويتضمن بعض الأفكار والتصورات المشكوك فيها؛ فالمعرفة الدينية فرع من المعرفة العامة لا أكثر ولا أقل.
ويلخّص سروش فكرته في مبادئ ستة: الدين (الوحي) صامت؛ وعلم الدين أو المعرفة الدينية نسبية تابعة للافتراضات المسبقة؛ وعلم الدين عصري لأنّ الافتراضات عصرية؛ والدين الإلهي صادق ويخلو من التناقضات، ولكن علم الدين لا يكون كذلك بالضرورة؛ والدين قد يكون كاملاً أو شاملاً، وليس كذلك علم الدين؛ والدين إلهي ولكن تفسير الدين بشري ودنيوي تماماً.
التفسير على سبيل المثال، لا يمكن أن يكون إلا معبّراً عن رؤية وخبرات المفسر ومواقفه من جملة من القضايا. إنّ جميع القضايا الدينية يتوقف فهمها على الأفكار والآراء المستوحاة من خارج دائرة الدين. والمفسرون سعوا بصدق، طوال التاريخ الإسلامي، إلى تطهير تفسير القرآن الكريم من مداخلات الأفكار الخارجية. ولكن سعيهم هذا أفضى إلى نتيجة مهمة، وهي أنّ حضور هذه الأفكار في أجواء العمل التفسيري لا يمكن اجتنابه، سواء على مستوى العمل أو على مستوى النظر والمعرفة. وببيان آخر، إنّ عدم إمكان تجنبه في مقام العمل نتيجة لعدم إمكان تجنبه في مقام المعرفة والنظر.
ونجد اليوم سجالات واسعة بين المثقفين والمفكرين حول مسائل الطبّ والسياسة والاقتصاد في الإسلام. ومن النادر أن نجد طرحاً لهذه المسائل في ضوء توقعاتنا من الدين. وهي مسائل لا يمكن حلها والبتّ فيها بالرجوع إلى القرآن والسنة، بل ينبغي تفسير الكتاب والسنة في ضوء هذه التوقعات.
إنّ الاجتهاد الواقعي في الفقه لا يمكن أن يتحقق إلا بعد استيعاب الفلسفة والعلوم والمعطيات خارج الدين؛ الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع.. فهذه الأمور والعلوم هي التي تصبغ توقعات الأفراد في ذلك العصر.
والإحياء الديني في عصرنا الحاضر لا يمكنه أن ينال النجاح والتوفيق إلا بالانفتاح على العلوم الجديدة، والتحولات الفكرية المعاصرة في المجالات المختلفة، أو أن يتفاعل معها من موقع المحاسبة والوعي. ولا يمكن إجراء تغيير إصلاحي من غير معرفة الدين والأفكار البشرية من خارج الدين. ومواجهة الركود الديني تأتي من الفهم والمعرفة خارج الدين. والفكر المتخلف والفهم الماضوي للمسلمين للنصوص المقدسة، هو نتيجة حصيلة التخلف في دائرة الحضارة والثقافة الاجتماعية المعاصرة.
والحجر الأساس في هذه المقاربة أنّ الدين وحي إلهي، ولكنّ المعرفة الدينية بشرية. فالتفسير هو ظنّي متغير، يحتمل الخطأ والصواب، والهوى والتسامح.

gharaibeh48@