"جرش" ينطلق رغم الشد العكسي

اليوم، وعند الساعة السادسة والنصف، يعاود مهرجان جرش مسيرته، متحديا عوائق وعراقيل وضعت في طريق المهرجان الأقدم والأبرز عربيا، ومتخطيا صعابا ومطبات هدفت إلى وأده وعرقلة مسيرته. ربما يقول قائل "ما لنا ومهرجان جرش"، وخاصة في ظل الوضع المالي المتردي الذي تمر به البلاد والعباد، وتدني القوة الشرائية للمواطن الأردني؟ وأنا شخصيا واحد من أولئك الذين يعانون من تدني القوة الشرائية وارتفاع الأسعار، بيد أن ذلك لا يعني الجلوس في البيت، واللطم على الخدود، ومنع الفن والموسيقى وثقافات الشعوب من دخول العقول وتذوقها والاستمتاع بها كلما كان ذلك ممكنا.اضافة اعلان
الموسيقى، سادتي، غذاء الروح. ومن يريد تنقية فكره وتفكيره، عليه التوجه إلى الموسيقى لكي تغسله، وتبعده عن التوتر والعصبية وتقلب المزاج، وتدخله في عالم من الهدوء والسكينة والوداعة.
اليوم، يُفتتح مهرجان جرش السابع والعشرون للثقافة والفنون، وتدق أجراسه، وتصدح ساحاته بأصوات فنانين عرب طالما تمنوا الوقوف على مسرح جرش والغناء فيه. كيف لا والمهرحان من أعظم المهرجانات العربية على الإطلاق، ولا يوازيه ويدانيه إلا واحد أو اثنان فقط، وباقي المهرجانات العربية كانت صدى وتقليدا ليس أكثر. ففي جرش، صدحت فيروز، وتمايل صباح فخري، وأطربنا ملحم بركات، ومحمد عبده، وماجدة الرومي، وهاني شاكر، ونجوى كرم، وكاظم الساهر.. وغيرهم من عمالقة الفن العربي الأصيل، الذين أطربونا وأمتعونا بموسيقى وألحان تُرقص القلب وتغذي الروح، وتُنقي الوجدان.
أعجب من أصوات تخرج ضد المهرجان تطالب بمنعه، ومن أحزاب تنجر وراء تلك الأصوات العالية بحجة حرمة الغناء حينا، والوضع الاقتصادي حينا آخر. مثلا، يقول النائب عن محافظة جرش محمد زريقات، إن المهرجان استطاع ملامسة المجتمع المحلي وتطلعاته. ويذهب إلى أبعد من ذلك، عندما يشير إلى أن الجرشيين متواجدون في المهرجان وفي لجانه المختلفة، والمجتمع المحلي بكل ألوانه يعول على المهرجان ونجاحه، ضاربا للتدليل على ذلك الكثير من الأمثلة المتعلقة بالأسواق الموجودة في المهرجان، ومنح أهالي المحافظة ميزة التواجد والاستثمار.
أعتقد أن كل الحجج التي تطالب بمنع المهرجان لا يراد منها إلا إبقاؤنا في مربع الظلامية والتخلف والشد العكسي. نعم سادتي، فالشد العكسي ليس محصورا في السياسة فقط، وإنما يمكن ممارسته في أي وقت وزمان. فمحاربة الإبداع بحجج واهية شد عكسي، ومثل هؤلاء لا يريدون لمجتمعنا التطور، ويريدون له أن يبقى أسير معتقدات وأفكار بالية. مثل هؤلاء في قرارة أنفسهم، لا يريدوننا أن نستخدم السيارة أو الطيارة أو القطار. ومثل هؤلاء يريدون إقامة ما ينادون به بالترهيب، متناسين أن العالم تطور وبات الحوار هو الوسيلة والغاية والهدف، وأي طريقة أخرى لا بد أن تنكسر وإن طال الزمن.
أنا اريد مهرجان جرش؛ أريده لأنني أريد دولتي المدنية التي تراعي القانون واحترام حقوق الناس وأفكارهم ومعتقداتهم؛ الدولة التي لا يتغول فيها طرف على آخر؛ الدولة التي يشعر فيها كل فرد أن حقوقه مصانة وكرامته محفوظة. مهلا.. لا تضحكوا.. أنا أعرف أن هناك من سيقول: أأنت تحلم؟! أين نحن مما تقول؟! أين نحن من الدولة المدنية؟! أين نحن من سيادة القانون؟! أين نحن من غياب الواسطة والمحسوبية؟ أين نحن من المساواة في الحقوق والواجبات؟! أين نحن من بسط الدولة لهيبتها على كل ركن فيها، بحيث لا تكون أي زاوية عصية على الدولة، بفضل حسابات ضيقة واعتبارات جهوية؟! أين نحن من كل ذاك؟! شخصيا، أريد أن أحلم بأن نصل إلى دولتنا المدنية وسيادة القانون والمساواة واجتثاث الفساد والمحسوبية، وأن نضع حدا للفكر السوداوي، والشد العكسي، أيا كان أصحابهما، ونعظم الفن والفنانين باعتبار الموسيقى غذاء الروح والفن مرآة الشعوب، والفنانين سفراء الشعوب إلى الشعوب.
ختاما، من الواجب ونحن على أعتاب افتتاح مهرجان جرش أن ننظر إلى مطالب الفنانين الأردنيين الجالسين في خيمة اعتصامهم منذ أكثر من 20 يوما بدون أن تكلف الحكومة خاطرها التواصل معهم.. فهل تفعل الحكومة وتتنازل للتواصل مع مبدعيها؟!

[email protected]