جزء من النص مفقود

طغى حديث نتائج امتحان الثانوية العامة "التوجيهي" والقبول الجامعي على أحاديث الناس في العيد، أكثر من غيره من موضوعات عامة محلية؛ وتفوق هذه المرة حتى على همّ زيادة تعرفة الكهرباء المتوقعة هذه الأيام. والمفارقة في موضوع اهتمام الناس، وتندرهم في الوقت نفسه، هي ما حملته نتائج "التوجيهي" لهذا العام في بعض المناطق من تفوق غير مسبوق، ضاعف عدد الحاصلين على معدلات تتجاوز التسعين بالمائة أضعاف ما عرفته السنوات الماضية، ما يؤكد بشكل قاطع ما تردد عن عمليات غش واسعة شهدتها قاعات الامتحان باستخدام الهواتف الذكية وتطبيقاتها المتعددة. وهو الأمر الذي أكده معلمون شاركوا في تصحيح الامتحان، ذكروا -ليس من باب التندر بل الوقائع- أن بعض الإجابات كنت تنتهي بعبارة "جزء من النص مفقود"؛ في إشارة إلى النقل الحرفي من الرسائل النصية التي كانت تصل الطلبة!اضافة اعلان
هؤلاء الطلبة سوف ينافسون طلبة متفوقين. وربما يصل بعضهم إلى مقاعد كليات الطب والهندسة، وتوضع فيما بعد مصائر الناس بين أيديهم. وهو ما يعني أننا أمام كارثة بالمعنى الحقيقي للكلمة، تحيط بهذا الجيل، إذا ما علمنا أن أحاديث الغش الواسع في امتحانات "التوجيهي" تتكرر في السنوات الثلاث الأخيرة بدون وجود إجراءات رادعة، بالمعنى القانوني والإجرائي، تستعيد قوة وفعالية الردع العام في واحد من أكثر الملفات حساسية؛ فالامتحان هو شرف المؤسسة التعليمية، وإذا ما مُسّ، فقدت سمعتها ورسالتها.
بكل بساطة، لا نحتاج إلى الكثير من الذكاء لإثبات أن ما جاءت به نتائج "التوجيهي" لهذا العام لا يعكس الواقع أبدا، بل ويدق جرس إنذار قوي يحذر من اتجاه عام يقصد، بشكل مباشر أو غير مباشر، تهديد مستقبل جيل بأكمله، وتزييف الواقع. ولعل الدليل على ذلك أن نتائج الأردن في برنامج "الاتجاهات الدولية في دراسة الرياضيات والعلوم"، المعروف باسم " TIMSS، قد أظهرت تراجعا واضحا في مكانة الأردن خلال آخر عامين، بعدما كان الأردن يسجل أعلى المستويات في النقاط بين أقطار الشرق الأوسط المشاركة في البرنامج، كما هي الحال في تراجع الإنفاق على التعليم الذي شهدته السنوات الثلاث الأخيرة؛ فكيف يمكن تصديق هذه الطفرة في نتائج طلبة الفرع العلمي تحديدا في "التوجيهي؟!
سلسلة أزمات متوالية يشهدها التعليم في الأردن منذ سنوات، شملت الجامعات والتعليم العام، وليست أولاها ولن تكون آخرها أزمة امتحانات "التوجيهي". وتعبر هذه الأزمات بالدرجة الأولى عن صراع غير مباشر على مستقبل التعليم، ينال شكل ومضمون ومسار التعليم الذي يعد أغلى وأثمن أشكال رأس المال الوطني.
هذا الصراع ضرب في العمق مكانة المؤسسة التعليمية الأردنية، ونال الدور والوظيفة لها، عبر اختلاط وارتباك القيم التنظيمية وقيم الإصلاح، وعدم وضوحهما. وبالتالي، دخلت المؤسسة التعليمية ومن حولها المجتمع في دوامة وحلقة  مفرغة؛ ماذا نريد من التعليم؟ وإلى أين يسير؟ وهل يقود التعليم التغيير الاجتماعي والثقافي، وبالتالي الاقتصادي؟ أم أنه مجرد سلم للارتقاء والمكانة الاجتماعية؟ ولعل المشهد الممتد من قاعات امتحان "التوجيهي" إلى ساحات الجامعات، هو أبلغ  مظاهر الأزمة الإصلاحية الكبرى في التعليم.
كلنا في المجتمع، وفي مؤسسات التعليم ومؤسسات الدولة والإعلام، ندرك الحاجة إلى إصلاح تعليمي  وتربوي. ولكن لا توجد إلى هذا اليوم رؤية وطنية متماسكة، لا في التعليم العام ولا في التعليم العالي، قادرة على الصمود على مدى سنتين فقط، وبناء تراكم حقيقي حولها، بشأن فوضى استخدام التكنولوجيا في الغش في امتحانات "التوجيهي"، كما العنف وسط ساحات الجامعات. ثمة جزء كبير من النص مفقود، إنما ليس في إجابات الطلبة، بل في إجابة الدولة على هذه الأزمة.

[email protected]