جمال الخياط: الرواية والشعر والخطبة والمراوحة الموهمة

 بيروت - لدى قراءة "الساحلية" للكاتب البحريني جمال الخياط والتي وصفت بأنها رواية، قد يشعر المرء بشيء من الضيق .. ويتساءل على الارجح هل ما قرأه هو رواية فعلا.

اضافة اعلان

الكلام الذي ورد على مدى 120 صفحة متوسطة القطع يعكس دون شك سمة واضحة هي قدرة شعرية جيدة لكنه في ما عدا ذلك يثير دون قصد اسئلة عن الرواية والشعر ومتى يندمجان بنجاح.

ولربما وجد القارئ نفسه يتساءل عن السبب الذي يدعو "شاعرا" مثل الخياط الى ان يكتب ما يقول عنه انه "رواية" وهي في معظم حالاتها كلام شعري وجداني حينا واقرب الى خطبة عاطفية او نارية حينا آخر.. ولم لا يكتب نصه الشعري دون ان يدرجه تحت باب الرواية الذي لا ينسجم معه دائما.

اما الضيق فهو ينتج عن كون النص -على رغم ما تميز به من اجواء وكلمات شعرية وما سعى اليه الكاتب من "رمزية"- بقي يراوح مكانه بما يبعث في النفس ضيقا ينتج عن عدم التحرك روائيا وعن سكونية سردية بل انه ربما ذكر القارئ بمثل شعبي عن "دق" الماء بمدقة لكن الماء يبقى ماء مهما طال هذا "الدق".

وشعرية رواية جمال الخياط هذه ليست من النمط الذي تحمله الحركة الروائية الى النفس بل هو اشبه بتلك البرك التي تركب لها نوافير ترش الماء فيتصور المشاهد حركة مستمرة توهمنا بجريان فعلي وبحركة مستمرة لكن هذا الماء هو نفسه يرتفع هنا ويصب هناك ليعود الى الارتفاع والى الانصباب.

ثم ان نص الخياط -اذا اوهم بالحركة- فحركته اقرب الى ان تكون عمودية كما انه يحفل بخطابية تطل مدوية حينا وحزينة حينا آخر لكن مادتها القصصية ضحلة تتردد في اقوال واشكال تعبير متقاربة احيانا كثيرة.

وقد صدرت الرواية عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" وهي تاسع كتب الخياط اذ اصدر قبلها ثمانية بين رواية ومجموعات قصصية. لوحة الغلاف جميلة وهي للفنانة التشكيلية البحرينية فاطمة الجامع. وقد حمل الكتاب رسوما داخلية اخرى.

ولربما تكونت فكرة القارئ عن مدى شعرية اجواء الرواية حتى قبل ان يبدأ بقراءتها اذ تكفيه قراءة الاهداء وبعض ما قدمت به الرواية. الاهداء على الصفحة الاولى جاء على الشكل التالي "عندما يشع نور في عتمة الذاكرة أتيقن بأانك مصدره وبأنك الحاضر دائما في ردهاتها المخيفة تفتك بلعنة الايام." ثم يضيف "الى يعقوب ابراهيم.. صداقة ابدية تمتد بعمر الآهات المزمنة."

ننتقل بعد ذلك الى الصفحة التالية وقد حملت في وسطها سطرا واحدا هو "نوارة هي الحلم الذي ما يزال يؤرقني." تلت هذه الصفحة صفحة اخرى حملت قولا لفرانس كافكا هو "ثمة موجة سوداء تلاحقني." وفي رواية الخياط اجواء كافكاوية خاصة من "المحاكمة" وبعد ذلك صفحة حملت ابياتا للشاعر السعودي عبد المحسن يوسف وهي..

"صباح ناحل/ والباب موارب/ والساحلية ترتدي غيم القميص/ وارتدي ارقي/ تهاتفني../ انتظر/ سأجيء بعد هنيهة/ اني انسق في الاواني ضحكتي/ وارتب الامواج في المعطف."

بعد ذلك يبدأ الفصل الاول من الرواية وعنوانه "حكاية". ويبدو هذا الفصل ايضا كأنه مقدمة طويلة اخرى الا انها تبدو اقرب الى قصيدة تحاول ان تروي لكن محاولتها تبدو كأنها تشتت اي خط سردي متوقع. يقول في ما يشكل فعلا قصيدة نثر "هذه حكايتك الرمادية.. هذه معجزتك الممتدة سنين عجافا.. هذه شائعتك التي روجت لطغيانها في ساعة محمومة بالشوق وموصومة بالتعب والجدال.. هي فعلا حكايتك السمراء التي لن يصدقها بشر غيري. سوف ننسحب -انا وانت- تاركين للحكاية السفيهة حرية الثرثرة وهوس الغثيان. سنراقب صخب غرائزنا المجنونة وتوتر عقولنا لانحرافات القلب والمخبوء المبهر من شتى الاجناس... هي الحكاية التي تترقبنا انا وانت وشخصيات الحكاية المعروفون منهم والمجهولون وجمهور الزمن الاغبياء وصفوة رجال التاريخ وكتب المعجزات والانس ومعشر الفقراء والبحارون المعوزون والمضربون عن التاريخ."

في الفصل الثاني الذي حمل عنوان "الامبراطورة" يتابع الخياط كلامه الشعري واصفا حالة تطل علينا من مجالات مختلفة.. عالم الاحلام واشخاصه الاقرب الى الارواح والاشباح والجنيات. هو انسان يصف خوفه من الظلام. يقول "الظلام سيد الاشياء.. الظلام هو سيد الحقيقة وعندما يهبط من عربته السماوية المتلألئة يستل سهما ناريا ثم يشعله بالخوف المسموم ويصوبه نحو قلبي بدقة. ويمضي القاتم يمارس طقوسه الروتينية... الخوف من الظلام.. من يصدق هراء معتقا كالذي يستبيح ذاكرتي."

انه رجل تخطى عمر الثلاثين لكنه لا يزال يخاف من الظلام كما كان وهو طفل. وهذا الامر كما يقول ليس حالة مرضية او قلقا او "وساوس احتلت الدماغ... انا مرتعب من مشاهد حقيقية تلاحقني عندما يخيم الظلام... عندما يحل الظلام تظهر تلك المرأة جالسة كامبراطورة على الكرسي المهترئ."

ومن هنا فصاعدا تبدأ الحركة عمليا بالتوقف على الرغم من المراوحة بين صور الطفولة ووضع البطل الحالي. تتكرر الصور والاقوال متشابهة او حاملة ما قل او ندر من الجدة وهي جدة لا تتجاوز نتفا من التفاصيل. انها امبراطورة في "خرابة" تطل احيانا في صورة معشوقة او عاشقة واحيانا اخرى في صورة مربيته التي تولت امره فهي حينا اشبه بأم وحينا اخر "انثاه" الحبيبة.

يقول "في المساءات المعتمة فقط تتزين وتتربع لتستقبلني وانا قادم الى منزل العائلة الموغل في ازقة حي "سيادي"... وافكر طوال الطريق في تلك المرأة التي يبدو انها عشقتني" والتي "وحدي من يشاهدها../ وحدي من يقدس هيبتها... اخاف ان تخطفني الى مملكتها السماوية.. تستطيع ان تفعلها وهي متربعة على كرسيها السحري."

هذه المرأة تطل بصورة امرأة ميتة حينا وتشكل مزيجا من امرأة فقيرة متعبة حينا اخر ومربية حينا وساحرة في احيان كثيرة. يتحدث عنها البطل بشعر فيقول "رحت اهتف بأعلى صوتي../ يا مليكة الليل قد خذلني التعب.. يا امرأة الليل ماعدت استطيع تحمل انة القلب."

ومن هنا الى النهاية كلام كثير عنها عن "نوارة".. واحداث قليلة ومراوحة في المكان وان حاول الكاتب بل الشاعر ايهامنا بالحركة. تنتهي الرواية بعد ما يشبه بعض الوان الاساطير اليونانية واسطورة اورفة وزوجته الميتة بشكل خاص.. في اجواء محاكمة غامضة واقرب الى الاحاجي. كلام الختام يذكر بكلام البداية. "نوارة.. حلمك الوردي المقدس سيظل يؤرقني ما حييت."