جمعية الكتاب المُقدس

غيث هاني القضاة

في الأسبوع الماضي قامت جمعية الكتاب المقدس، وهي جمعية ثقافية وطنية أردنية عمرها أكثر من خمسين عاما في الأردن، بوضع لافتات تهنئة بعيد الاستقلال الوطني على بعض جسور المركبات والمُشاة في عمان، مُستشهدة بآية مقتبسة من سفر المزامير في الكتاب المقدس والتي تقول «أمَّا الوُدَعاءُ فَيَرِثونَ الأَرْضَ، ويَتَلَذَّذونَ في كَثرَة السَّلامَة» وهي تُماثل الآية التي وردت كذلك على لسان السيد المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام، في إنجيل متّى القائلة «طوبَى لِلْوُدَعاء، لأَنَّهُمْ يَرِثونَ الأَرْضَ».اضافة اعلان
وعند مشاهدة اليافطات في شوارع عمان ضجّت مواقع التواصل بعبارات تستهجن وجود مثل هذه الآيات حيث تم ربطها بالتطبيع أحيانا وبمنظمات صهيونية أحيانا أخرى وبطريقة غريبة! قامت بعدها أمانة عمان الكبرى بكل أسف بإزالة جميع اليافطات من الشوارع وأصدرت بيانا ذكرت فيه إن اللافتة تضمنت عبارات مُسيئة، وأنها «لن تسمح بنشر عبارات تُسيء للأخلاق العامة السائدة في المجتمع»! ثم استهجنت الجمعية في بيان لها تصرف أمانة عمان، مؤكدة أنهم جزء من نسيج هذا الوطن، متأصلون ضاربون جذورهم في هذه الأرض بكل افتخار.
ولمن لا يعرف فان الكتاب المقدس عند المسيحيين ينقسم إلى قسمين رئيسيين، العهد القديم والعهد الجديد، ويتكون العهد القديم من تسعة وثلاثين كتابا تسمى أسفارا وهي مشتركة بين اليهود والمسيحيين، ويتكون العهد الجديد من سبعة وعشرين سفرا وهي الأناجيل القانونية الأربعة بالإضافة إلى أعمال الرُسل وأربع عشرة رسالة لبولس وسبع رسائل لرُسل وتلاميذ آخرين وسفر الرؤيا، وكانت أسفار العهد القديم قد كُتبت بالعبرية التوراتية بينما كتبت أسفار العهد الجديد باللغة اليونانية القديمة، ثم تمت ترجمتها بطبيعة الحال إلى مئات اللغات، ويضم الكتاب المقدس ترانيم وخُطبا وتسابيح لله ووعظا وإرشادا وأحكاما وقضاء وأحداثا تاريخية وشرائع دينية وأدبية.
لا أدري ما الذي أثار حفيظة الناس عند قراءة الآيات المسيحية في شوارع عمان! وكيف تم ربطها بالصهيونية أو التطبيع كما جاء في بعض الانتقادات الرديئة، فنحن نعيش في مجتمع يُشكل فيها المسيحي مع المسلم نسيجا وطنيا متماسكا وقويا، ويحترم كل طرف فيهم كتاب الآخر المُقدس لديهم، نحن هنا لا نتحدث عن الاختلاف في العقيدة فهذه مسألة محسومة ولكل صاحب دين أن يقتنع بما يشاء وأن يؤمن بما يشاء، نحن نتحدث عن فكرة احترام وتقدير الدين واحترام وتقدير الرموز الدينية مهما كانت، وليس خارج السياق أن أقول بأن الاردنيين المسيحيين من أقدم وأعرق المجتمعات المسيحية في العالم وساهموا في الحروب التي خاضها المسلمون جنبا إلى جنب معهم ضد الجيش البيزنطي خاصة قبيلة العزيزات المسيحية وذلك في معركة مؤتة في الكرك، والتي جاء اسم هذه العشيرة بحسب بعض المصادر والدراسات التاريخية لأنهم (عززوا) القوات الإسلامية بالرجال والسلاح أثناء القتال مع البيزنط.
ما حصل هو خطأ فادح من أمانة عمان التي استجابت لبعض الضغوط من بعض النواب أو من عامة الناس لإزالة اليافطات دون أن تُكلف نفسها عناء البحث والتدقيق لتفهم مضمون الرسالة التي تقدمها هذه الآيات وتفسيرها، وهو تصرف مُخجل كذلك بوصف الآيات في الكتاب المُقدس بأنها «عبارات مُسيئة» وقد أحسنت الأمانة عندما تراجعت عن هذا الموقف وقام أمينها بالاعتذار عن هذا الخطأ الاداري غير المقصود، فالأردني المسيحي له الحق أن يستخدم ما شاء من آيات أو تعبيرات من كتابه المُقدس للتعبير والتهنئة كما هو الحق تماما للأردني المسلم في أن يستخدم ما شاء من آيات من القرآن الكريم أو النصوص الدينية المختلفة للتعبير، فنحن نعيش في وطن يفتخر بالنموذج المُتقدم الذي يقدمه في مضمون فكرة العيش المشترك (وليس التعايش)، فجميعنا شركاء على أساس المواطنة في الانتماء لهذا الوطن وحبه مهما اختلف الدين والمُعتقد.
ليس بعيدا عن السياق أن أذكر هنا بأن المسلمين في الغرب يفرحون عندما تسمح لهم الدول هناك باستخدام المساجد وفتحها ورفع الآذان واستخدام شعاراتهم الدينية، ويعتبرونها حقا من حقوق التعبير وحقا من حقوق المواطنة هناك، ويعتبرون أي تضييق عليهم سواء أكان في عدم السماح لهم باستخدام اللباس الإسلامي أو استخدام شعاراتهم الدينية، اضطهادا وخروجا عن المألوف في احترام قيم الدين حتى وإن اختلف عن دين الدولة التي يعيشون بها وهذا من حقهم الإنساني كمواطنين بطبيعة الحال، ونلاحظ أن العديد من الدول هناك تحترم هذا التنوع وهذا الاختلاف، وهذا هو الأصلُ في العلاقات الانسانية الطبيعية (احترام المُعتقد برغم الاختلاف)، وحيث أن الدستور لدينا يقول في نصوصه «تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في المملكة ما لم تكن مُخلة بالنظام العام او منافية للآداب» فلماذا تجاوزت الأمانة قواعد الدستور وأزالت اليافطات من مكانها؟
ما لفت نظري حقيقة هو كيف استطاعت وسائل التواصل قيادة الرأي العام في الاردن بطريقة سلبية نحو القضية، وكيف استطاع «بوست» مُعزز بصورة لليافطات أو تعليق في موقع أن ينتشر بطريقة عجيبة غريبة! وكيف جُعل من هذه الآيات في الكتاب المقدس وكأنها تطبيع أو رموز صهيونية! وكيف استطاع موظف في الأمانة أن يُصدر بيانا يسيء إلى الكتاب المقدس دون أن يُكلف نفسه عناء البحث والتدقيق! وهو الأمر الذي يدفعني للتساؤل عن مدى فعالية مناهج التربية والتعليم في نشر ثقافة احترام الآخر والوعي بثقافته وتاريخه ودينه بين أبناء المجتمع الواحد!
بالرغم من أن «رسالة عمان» ومبادرة «تعالوا إلى كلمة سواء» تُدرس في المناهج الأردنية في مختلف المراحل وبالرغم من أن هذه المبادرات وغيرها عميقة في مضامينها ومُتقدمة في نصوصها والتي أطلقها جلالة الملك عبدالله الثاني، لكنها تُدرس بطريقة صمّاء باعتقادي لا تُحدث تأثيرا في المناهج أو تأثيرا في الوعي العام والسلوك لدى الطلبة، ولو كنتُ صاحب رأي في المناهج لجعلتُ الطلبة يعرفون أن أكرمَ العرب وأسخاهم وأكثرهم فروسية وشهامة هو العربي المسيحي حاتم الطائي، فجميع المناهج لدينا لا تُشير إلى مسيحيته بكل أسف بل تشير إلى بداوته وعربيته فقط، ولجعلتُ الطلبة يعرفون كذلك بأن فحول الشعراء والأدب واللغة كانوا عربا مسيحيين من شعراء قبائل اليمن ونجد والحجاز وقبائل بكر بن وائل من بني عدنان أمثال امرؤ القيس والمُهلهل أخو كليب وقس بن ساعدة الحكيم ذلك الخطيب المُفوه الذي هو أول من قال في كلامه: أما بعد، وأول من قال في أحكامه: البينةُ على من ادعى واليمين على من أنكر، لأن حجم الجهل بطبيعة الدين المسيحي وتعاليمه يبدو انه يفوق ما نتوقع ونعتقد.
نحن بحاجة إلى إعادة النظر في مناهجنا أولا لأن المُخرجات لا تُشير إلى ما هو جيد على جميع المستويات الاجتماعية والعلمية والسلوكية، وبرغم وجود عقلاء وعلماء في مجتمعنا إلا أن صوت الغوغاء والدهماء بكل أسف يعلو أحيانا ويجعلنا نُطفئ سراج العقل الذي به نستنير، خصوصا في ظل وجود وسائل التواصل التي جعلت للمُفكر والمُثقف والتافه والأرعن منبراً يتحدث من خلاله ويؤثر بواسطته شئنا أم أبينا، وبحاجة كذلك إلى تعزيز ثقافة الحوار والنقاش وفهم الآخر بطرق عملية بحيث نضمن تطبيقها في جميع المستويات، وهنالك عبء كبير على المُثقفين ورجال الدين وأصحاب العلم والخطباء في نشر ثقافة الحُب والفهم والاستيعاب من أجل إشاعة الروح الإيجابية في المجتمع.