جنازة مهيبة

هذا ما حصدته أيادي الطبيب النطاسي المرحوم الدكتور رضوان السعد. جنازة مهيبة ضمت آلافا من محبي هذا الطبيب الإنسان، الذي أفنى سنين عمره وهو يدافع عن حق الناس في العلاج منخفض التكاليف، أو حتى بدون فاتورة؛ أي بالمجان. لا نياشين ولا دروع تكريم ولا صور تملأ الجدران، مع شخصيات مهمة ومعروفة في العالم. فقط محبة الناس ووفاؤهم ودعاؤهم له بالرحمة والمغفرة. أمثال هذا الطبيب الطيب، وعلى قلتها، لكنها تعمل في الظل ولا تبحث عن الأضواء الكاذبة، لتغذي غرورها واعتدادها بنفسها. صحيح أنه تم تكريمه بعد وفاته بشارع يحمل اسمه، أو ميدان يلقب بلقبه “طبيب الفقراء”، لكن حتى ذلك لا أعتقد أنه كان في مخطط هذا الرجل النبيل الصالح. كم بكى عليه الناس الذين عاشروه وعرفوه عن قرب. وغيرهم ممن سمعوا عنه بعد وفاته، التي ستترك فراغا عميقا لدى آلاف المرضى غير القادرين على ملاحقة متطلبات العلاج بالغة التكاليف. كم من طبيب فقراء ومعلم فقراء في وطننا لم نعرف عنهم، لأنهم غير باحثين عن الشهرة الزائفة، ولا على جوائز وتكريمات محفوظة لأصحابها المعروفين! وفاة هذا الرجل النادر، فتحت ملف رجال ونساء الوطن المحترمين الطيبين، الذين لم ينالوا مستحقاتهم المعنوية في بلدهم، وهم فرسان حقيقيون في مضمار الحياة الصعبة القاسية بكل تفاصيلها المكلفة والمحرجة لمن لا يملك أبعد من العين البصيرة. كم من نبيل ونبيلة لم تهز قواعدهم رياح التكسب السريع، والقفز من فوق الحواجز الطبيعية والاصطناعية، من أجل تحقيق أهداف وهمية، لا ولن يكون من ضمنها جنازة يمشي من خلفها عشرة آلاف، خمسة آلاف، ألف مشيع حتى، لأنه في خضم بحثه المسعور، لم ينظر إلى “الناس” إلا من خلف زجاج مغشى! للأسف الشديد، أن إعلامنا ومؤسساتنا التربوية والتعليمية قد قصرت جميعا مع تلك النماذج المضيئة، بحيث لم تصنع منهم أمثلة يقتدى بها، ونباريس يستضاء بتجاربها النيرة. كلنا اكتفينا بما يعرض علينا جاهزا من أمثلة مكرورة مملة من كثرة الإعادة والانتشار المجاني. لم تظهر علينا تلك النماذج المحترمة لا في برنامج خاص ولا عام، ولا في فيديوهات مصورة أو مقابلات متفق عليها، من أجل التلميع وتضخيم المنجزات العادية، قياسا بما يستفيد منه الناس ويبقى راسخا في مذكراتهم الجميلة. وعلى إثر ذلك، لم ينل أصحاب القلوب الطيبة حقهم في الاحتفال والتكريم، لأن القائمين على قوائم المحتفى بهم، لا يبذلون جهدا صغيرا في البحث عن تلك القصص الرائعة، ونحن اليوم في أشد الحاجة للاستماع إليها والتماهي معها، في ظل سعار النجومية الراسخة في عقول شبابنا وأطفالنا، والمستندة على مقاييس امتحان سطحية وتجميلية في أغلبها. ما يثير الارتياح والاستياء في آن واحد، أن تكريم هؤلاء يأتي في نهايات مشاويرهم في الحياة، مثل إكليل ورود يوضع على شواهد قبورهم. الورد يذبل بعد حين وتجف أوراقه، لكن عطره يبقى حتى يذكر الناس، بأن العبرة في الخواتيم. رحم الله طبيب الفقراء وكل من وقف معهم حتى ولو بكلمة طيبة، وحفظ من يظل باقيا على عهد الإنسانية والوفاء لمن لا يملكون ثمن زجاجة دواء، أو درس علوم خاصا.اضافة اعلان