جناية الفيديو كليب على مجتمعاتنا

أسامة شحادة*

بحسب تقرير "البث الفضائي العربي" للعام 2010، والصادر عن اتحاد إذاعات الدول العربية التابع لجامعة الدول العربية، بلغ عدد قنوات المنوعات الغنائية فقط 90 قناة فضائية، بخلاف قنوات الدراما والسياحة والتسلية والمرأة، بينما عدد القنوات الدينية 48 قناة (عدد كبير منها قنوات شيعية تزيد على 30 قناة، وبعضها قنوات مسيحية).اضافة اعلان
وتتضح خطورة الفيديو كليب على مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، من نتائج استطلاع قامت به مجلة "ولدي" على 57 من الآباء والأمهات، و65 من الأبناء، في كل من الكويت والسعودية والإمارات. إذ تبين أن 92.3 % من الأبناء يتابعون باستمرار الفيديو كليب، و31 % يشاهدونها لجمال المغني والمغنية والراقص والراقصة، و25 % يتابعها لما تحتويه من إثارة وتشويق.
وأثبتت دراسات علمية وميدانية في عدد من الدول العربية ارتفاع نسبة العنوسة وازدياد حالات الطلاق في مجتمعاتنا العربية بتأثير الفيديو كليب. إذ أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر أن أكثر من 70 ألف حالة طلاق وقعت بسبب مشاهد العري لمطربات وفتيات الفيديو كليب. كما بينت عدة دراسات أن أغانى الفيديو كليب العربي أظهرت المرأة العربية بصورة رخيصة ومثيرة، إذ ظهرت بملابس مثيرة مرتبطة بالسرير وقمصان النوم بنسبة 50 %، وركزت على مناطق الإثارة في جسد المرأة بنسبة 43 %.
وكان د. عبدالوهاب المسيري أول من تنبه إلى مكمن الخطورة في الفيديو كليب، وأطلق عليه مصطلح "الرقص الأفقي" في مقاله "الفيديو كليب والجسد والعولمة"؛ فقال: "سيطرح الكثيرون علي هذا السؤال: لماذا تكتب عن هذه الأمور؟ والرد بسيط للغاية، وهو أن مثل هذه الأمور تؤثر في الملايين، وهي تبين مدى تغير إدراكنا لأنفسنا ولما حولنا".
وحول طريقة تأثير الفيديو كليب على الناس، قال المسيري: "الفيديو كليب يؤكد جانبا واحدا من الأغاني وهو الجانب الجنسي. فالراقصات لا يتركن أي مجال لخيال المشاهد، والصورة عادة أقوى من الكلمة، فالكلمة (المجردة) توجد مسافة بينها وبين المتلقي، الأمر الذي يسمح له أن يتأمل في معناها ويتمعن في مغزاها، أما الصورة (خاصة إذا كانت صورة حسناء نصف أو ربع عارية تقفز وتحرك كل ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة)، نقول إن الصورة حسية ومباشرة ولا تترك مجالا للعقل أن يتأمل، أو للجهاز العصبي أن يستريح قليلا، بل تقتحم الإنسان اقتحاما. وبعد دراسة متأنية للفيديو كليب استغرقت ساعات طويلة.. اكتشفت أنه مما يساعد الفيديو كليب على اقتحامنا ما أسميه "الرقص الأفقي"؛ فكلنا يعرف الرقص الرأسي، أما الرقص الأفقي فهو مختلف تماما؛ إذ تنام الراقصة/ المغنية على الأرض لأسباب لا تغيب عن بال أي مشاهد. هذا الرقص أكثر وقعا وتأثيرا، وهو يدهشنا تماما، مما يجعلنا نستسلم لإغواء الصورة".
أما أخطر ما في الفيديو كليب، برأي المسيري، فيعبر عنه بقوله: "ولكن الأهم من كل هذا هو ما أسميه عملية تطبيع الرقص والإثارة؛ فالرقص يقدم في الفيديو كليب على أنه جزء من صميم حياتنا العادية اليومية، وبدل أن نذهب إلى الكباريهات جاءت هي إلينا... إن عملية التطبيع هذه تحول راقصة الفيديو كليب إلى جزء من حياتنا اليومية العادية، وربما قدوة يقتدي بها أو مثلا أعلى يحتذى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!".
وعن تأثير ذلك على المجتمع، يرى المسيري: "الفيديو كليب لا يقدم مجرد أنثى تغني وترقص وتتعرى وتتلوى، بل إنه يعبر عن رؤية كاملة للحياة، نقطة انطلاقها هو الفرد الذي يبحث عن متعته مهما كان الثمن. والمتعة في حالة الفيديو كليب متعة أساسا جنسية، ولذا فهي متعة بسيطة أحادية تستبعد عالم الموسيقى والطرب وجمال الطبيعة وكل العلاقات الإنسانية الأخرى. والفيديو كليب بتركيزه على هذا الجانب وحده يسهم في تصعيد السعار الجنسي (في مجتمع فيه أزمة زواج). ولكن من المعروف أن تصعيد السعار الجنسي مرتبط تماما بتصعيد الشهوات الاستهلاكية، وهذا ما أدركته تماما صناعة الإعلانات التلفزيونية، فمعظم الإعلانات تلجأ إلى الجنس لبيع السلع".
ما كتبه المسيري منذ عدة سنوات مشابه تماماً لما توصلت له الباحثة الأردنية مارغو حداد في كتابها "صورة المرأة والرجل في أغاني الفيديو كليب"، والذي هو في الأصل رسالة جامعية ترتكز على المفهوم الجندري والأرضية الحداثية العلمانية. فبعد أن استعرضت حداد عددا من الرسائل الجامعية السابقة والمشابهة لموضوعها، خلصت إلى النتيجة التالية: "يمكن القول إن هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي تتناول موضوع التنميط الجندري في "الفيديو كليب"، إذ أضحت مرحلة تحولية من تقديم صور نمطية تقليدية للمرأة العربية إلى صور "إباحية" جنسية غير تقليدية تختزل جسد المرأة" (ص 30).
وتقول الباحثة: "تعد بعض القنوات الفضائية العربية عبر تركيزها على البرامج الترفيهية والمنوعات والأغاني، وخاصة موجة الأغاني التي تعتمد على عدد كبير من الفتيات الراقصات، على أنها تعمل على نشر الثقافة الاستهلاكية وإشاعة التسطيح في صفوف الشباب العربي مما يترجم الأهداف التي تتوخاها العولمة الرامية إلى نشر ثقافة الاستهلاك. فيصبح جيل الشباب في الوطن العربي مولعا بتقليد أنماط الحياة الاستهلاكية الغربية" (ص 70).
وتحذر حداد من أن الدراسات بينت أن أغاني قناة "MTV" الأميركية، والتي تقلدها كثير من الفضائيات العربية، يحمل 77 % منها محتوى جنسيا عنيفا وعدوانيا كالاغتصاب، وأن تقليد الغرب في الفيديو كليب امتد من تقليد أسلوب المغنين الأجانب إلى الاعتماد على المخرجين والمصورين الأجانب، ما يعرض الشباب والفتيات في سن المراهقة لأزمات متعددة، بسبب ألفة لواقع بصري متصادم مع ثقافتهم وبيئتهم ومجتمعهم. كما تحذر من تحالف أصحاب المال من ملاك القنوات والمعلنين مع الفنانين والفنانات اللاهثين خلف المال والنجومية، بتقديم مساحات أكبر من اللحم الرخيص والعري الفاضح للوصول إلى أعلى نسبة مشاهدة، مما يرفع أجور/ أثمان الفنانين والفنانات، ويرفع قيمة الإعلانات، ويرفع قيمة الأرباح الحرام. وهكذا، ستبقى الأجور والإعلانات ترتفع كلما ارتفع الحياء والأخلاق واللباس عن أجساد هؤلاء الرخيصين!
ولكن أليس هذا كله هو بسبب إقبال الجمهور على هذه البضاعة النجسة، وبحثه عنها وبذله في سبيلها الغالي والرخيص؟! أوليس هذا يتم بسبب تضييع المسؤولين لأماناتهم بمنع عرض هذه الفضائح، وعقوبة المعتدين على الأخلاق العامة والمفسدين لمستقبل الأمة؟!
لقد عمّق الفيديو كليب صورة متوهمة للمرأة الجميلة يبحث عنها الشباب فلا يجدونها، وتسعى إليها الفتيات فلا يصلن إليها. وفعلاً، جعلوا من الحب عذاباً وألما وناراً، وذلك لأنهم يريدونه بطريق حرّمه الله عز وجل. ولهذا، هل يمكن أن تقدم حياة هؤلاء الفنانين والفنانات، برغم كل المال والشهرة والجمال والسلطة، على أنها أنموذج للحياة السعيدة؟ لماذ يكثر في أوساطهم الخيانة والطلاق والشقاق والعنوسة وإدمان الخمر والمخدرات والانتحار؟ بالتأكيد لأنهم أضاعوا طريق الحب والمودة الصحيح "اظفر بذات الدين تربت يداك"، ليصلوا إلى قمة السعادة؛ "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (الروم، الآية 21).

*كاتب أردني