جورج لم يعد "على الدرب"

ترجل جورج حداد عن "الدرب" بعد طول ثبات وغزارة عطاء، رحل تاركاً خلفه بصمة كبيرة في حقول الأدب والشعر والفن والصحافة والإعلام

اضافة اعلان

لا كبير على الموت أبداً ولا مهرب من بدّه على أي حال، إلا أن موت أصحاب النفوس الكبيرة والقامات العالية والمآثر النبيلة، يأتي كهذا على الدوام صاعقاً، مفاجئاً وموجعاً إلى أبعد الحدود، ربما لأن حضور هؤلاء على خشبة مسرح الحياة كان قوياً ولافتاً، أو لأن عطاءهم كان ثراً ومميزاً، وربما أيضاً لأن فقدهم بالنسبة لأعزائهم ومجتمعاتهم الصغيرة خسارة ثقيلة جسيمة لا تعوض، وليس فيها غير نزر يسير من العزاء.

هكذا وقع عليّ نبأ رحيل الكاتب العتيق الصديق جورج حداد، صاحب الزاوية اليومية الأثيرة "على الدرب". وبمثل هذه المشاعر الأليمة الممزقة تلقيت خبر أبو أدونيس الذي عرفته في دار "الدستور" قبل نحو عقدين حافلين بالمودة الشخصية والخصومة الفكرية حول رؤية كل منا إلى بعض جوانب الصراع التاريخي، الذي كان هذا المناضل القومي الاجتماعي يفضل تسميته بالصراع مع "الياهود" تأكيداً منه على جذرية هذا العداء المديد.

لقد كانت تجليات مقولة أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، أكثر ما تكون انطباقاً على العلاقة الشخصية المتسمة بالاحترام المتبادل والتقدير العميق بيننا نحن الاثنين، علاقة نمت ودامت من دون أن تنال منها التعارضات المشروعة في وجهات النظر، أو تضعفها السجالات الحامية حول هذا الشأن أو ذاك من شؤون الحياة العامة، الأمر الذي كان يجسد تلك المقولة الحضارية، التي قلما تكون نافّة ومعمولاً بها في نطاق العلاقات الإنسانية المتفاعلة والخصومات اللفظية القائمة بين أوساط السياسيين والكتّاب والمثقفين على وجه الخصوص.

منذ أن تعرفت على الراحل الكبير، وهو حقاً كبير في مواقفه المبدئية وفي رقيّ خصوماته السياسية، تعرفت على مزايا شخصية نادرة وخاصة بهذا الفارس الذي ظل ثابتاً "على الدرب" أو قل بهذا الورّاق المتمرس بين جمهرة الكتّاب الصحافيين من وزنه. فقد كان عنيداً جسوراً لا يعرف الحلول الوسط في مقارباته الفكرية، ولا يهادن البتة إزاء رؤاه الوطنية والقومية، وكان في الوقت ذاته رقيق الطبع هيّناً ليّن المعشر، مفعماً بالمودة تجاه محيطه.

وأذكر ذات مرة في حمأة الخلاف الطاحن حول اتفاق أوسلو ومسارات عملية السلام، مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، حيث كنتُ وجورج حداد على طرفي نقيض في السجال الصحافي والسياسي الدائر آنذاك، أنني افتقدت إطلالته اليومية المفعمة بروح قتالية لا تساوم، لمدة طالت أكثر مما توقعت، فكتبت عن ذلك الغياب المؤقت متأسياً على انقطاع زاويته، طالباً منه سرعة العودة إلى المنبر الذي كم بدا شاغراً وموحشاً بغياب قلم نظيف يدافع بصلابة عن رؤية صاحبه بلا تحسب أو أدنى مداورة.

وكم كان رحمه الله سعيداً بتلك المساهمة المتواضعة، لاسيما وأنها صادرة عن صاحب رأي مختلف، وموقف متعارض مع بعض جوانب خطه القومي المعلن على رؤوس الأشهاد. وكم مرة ذكر لي فيما بعد، كلما التقينا من دون موعد مسبق، أنه كان يحتفظ بتلك القصاصة الورقية باعتزاز، رغم تقادمها مع مرور الوقت، ويستذكرها أمام مساجليه إن اقتضى الأمر، وقد سألته عنها في آخر زيارة له قمت بها قبل أسابيع قليلة، وما كنتُ أدري أنها كانت زيارة وداعية، ما إذا كان ما يزال يحتفظ بتلك المقالة، فأجابني مسروراً بأنها في الحفظ والصون ضمن أرشيفه الخاص وأنه سيورثها لأولاده فيما بعد.

ترجل جورج حداد عن "الدرب" بعد طول ثبات وغزارة عطاء، رحل تاركاً خلفه بصمة كبيرة في حقول الأدب والشعر والفن والصحافة والإعلام، ومضى مكللاً بدماثة الخلق وحسن السيرة وجزالة الاحترام، فقد كان من حقه علينا، نحن أصدقاءه وأحباءه وزملاءه، أن نكرّمه في حياته، وأن نسمعه ما يستحقه من تقدير، من خلال مناسبة نهتبلها للاحتفال به وبسجاياه الفريدة، وهو أمر كانت ستطيب له نفس الراحل وتشرح له صدره، أكثر بكثير من السير في جنازته، أو تعليق وسام على نعشه، أو تدبيج أجزل المراثي في وداعه.

بكلام آخر، فإن من حق المبدعين على مؤسساتهم ورفاقهم، كل في حقل إبداعه ومجال اختصاصه المهني، واجب تلقي التكريم في مرحلة متقدمة من حياتهم، ونيل التقريظ اللائق بهم قبل أن يمضوا وحيدين إلى مستقراتهم الأبدية. فذلك تقليد أجدى للمكرمين وأحسن وقعاً في صدورهم، من كل هذا النحيب، وكل ذاك التأسي عليهم في مماتهم.

[email protected]