جورج وسّوف.. حكاية من "الكفرون"

طفل وصفه الجالسون وراء طاولات الطعام في الملاهي الليلية بـ"المعجزة". قبل ذلك وُلِدَ في أوائل الستينيات في ضيعة "الكفرون" الكنعانيّة على الساحل السوريّ، وتسمية الضيعة هي تصغير وتقليل شأن لـ"الكَفْر"، لكنّ هذا لم يكن في ذلك الوقت قدراً محتماً للطفل الذي سيكبر بلا شارِبَيْن بحبّ صبية متخيَّلةٍ من "حاصبيّا"، وفي حبّها يغنّي موّاله الذي سيطرقُ كلَّ جهات الشام. وهناك بداية سابقة لـ"الطفل المعجزة"، ففي حفل مدرسيّ، كان بائع أشرطة "كاسيت" يُسجِّلُ غناء الطفل ذي الشعر المجعّد، ثمّ انتشر صوته في حافلات النقل العام، حتى خرج اسمه، بدون أمّه وأبيه، من "حمص" إلى "بيروت" واقفاً على مَقطعَيْه "جورج وسّوف".اضافة اعلان
طرَدَتْهُ دمشق في منتصف السبعينيات، وقفَ في طريقه "صنّاجة الغناء الحلبيّ"، نقيب الموسيقيين السوريين، وهو أيضاً "صباح فخري" الذي خاطب الطفل جورج: "ارجعْ لإمّكْ وبيّكْ". ودّع أمّه وأباه بموّاله الدّامع، وفي لبنان، في أماكنه المعزولة عن صوت الحرب، فتح خزانة الستينيات، وبصوته الخالي من الكحول غنّى "الكلثوميّات"، و"الوهّابيات" و"السنباطيات"، وصار صوت "المعجزة" مسموعاً على الإذاعات المحليّة متقاربة الموجات، وفي أول الثمانينيات أصبح من الممكن رؤية "الطفل" ماسكاً عوده، يغني "انت عمري" كما ظهر في نسخة قليلة الجودة من "أشرطة الحزام الأزرق". كان صوته قد "بلغ"، وبقيَ وجهه ناعماً، صوره تلصق في غرف المراهقات وصالونات الحلاقة، وفي واحدة منها كان يرتدي بنطالاً رياضياً بثلاثة خطوط بيضاء، وبين شفتيه سيجارة.. ومن رأى تلك الصورة في العام 1983، أدركَ أنّ الغناء العربيّ قد خسِرَ "أبو كلثوم"!
خمس أغنيات صدرت في العام 1984، بأسطوانة حارّة العاطفة، سيرتبط اسمها بلقب "جورج" الذي لم يعد طفلاً، فهو منذ ذلك الوقت "سلطان" هوى، كما في الأغنية "اليزبكيّة" نسبة لصانعيها جورج وبديع يزبك، و"سلطان الطرب" على ملصقات حفلات فنادق الدرجة الرابعة، والإذاعات العربية متباعدة الموجات. صوت طربي بإجماع نقدي فريد، وأغان طربيّة معاصرة، متوسطة الطول، في المنطقة الزمنية الوسطى بين زمن الأغنية الحليمية الطويلة نهاية السبعينيات، والزمن السريع القادم أيضاً من القاهرة التي شيّعت أم كلثوم وعبد الوهّاب.. والأوتار. خمس أغنيات ملأت منتصف الثمانينيات، بل إن أغنية شديدة الرقّة في الأسطوانة كانت إشارة لبدء هدنة مؤقتة على جبهات القتال في بيروت المُحتربة. تصدحُ من روفر عسكرية: "روحي يا نسمة عند الحبايب".. فيبدأ سلام نسبي!
بدأ عقد التسعينيات.. كان ذلك أمراً سيّئاً لم يُمكن تفاديه، ففي السياسة دولة كبيرة التهَمَتْ دولة صغيرة، وفي الفنّ صعد "العودُ" إلى مسمار أعلى الحائط في برواز نحاسي على طرفه شارة سوداء. أما "المعجزة" فقد نمت لحيته، وغلظ صوته، وأصدر أسطوانات متلاحقة ما إنْ تضعها في باب المسجّلة حتى تدورُ بكَ ألحان راقصة، كأنّك في مولد مصريٍّ لا حُمّصَ لكَ فيه سوى أنْ تُجنِّبَ رأسكَ عصا "الدرامز"، أما الأوتار فلن تسمعها سوى بسَحْبَة الكمان، ولسوء قدركَ سيكونُ كهربائياً. راقصات لبنانيّات في أغنيات مُصوّرة على ساحل "جونيه"، وكلام مصري أبيض يُعاد ترتيبه على أغنيات الموسم، ونكات على المسرح، وشاب مخمور يقفز من المدرّج الحجري ليشارك "جورج" الغناء.. وهكذا مرّت عشرة أعوام ستنتهي بأسطوانة عنوانها هو كل شيء: "زمن العجايب".
سيُذاع على التلفزيون الأردني عام ألفين واثنين، خبرٌ عاجلٌ عن وفاة "جورج وسّوف" بسرطان الحنجرة في مركز الحسين للأورام، وسيتضح بعد ساعتين أنّ الخبر إشاعة سوداء، وأنّ "جورج" في واشنطن وهو بين يديّ الربّ. لن يموت فيزيائياً، بل سيغنّي بعد عام واحد "سلفْ ودينْ" وفي نسختها المصوّرة، هناك لقطات متحرّكة لـ"جورج الصغير المعجزة" مركّبة على صوته الخشن كدَوران الرّحى، بعد اللحية والشّيب والمشي المتعرّج، وسيغنّي ثماني اسطوانات، وربّما أكثر، فلا عاقلَ يمكن أنْ يقولَ لرجلٍ على أعتاب الستين: "ارجع لإمّك وبيّكْ"!