حبَّةُ "هلوسة" تكفي لثورتي!

كنتُ مواطناً "صالحاً"، أمشي على أطراف أصابعي بجانب الحائط، هادئا كالصيف، لا أقومُ بأيِّ حركة قد تؤدِّي إلى سقوطه؛ فقد كنتُ مؤمنا بضرورة وجود الحيطان العالية، فهي تحجُبَ الشمسَ عن عينيّ الناعستين، والريحَ عن جسدي المرتجف!

لم أجتهد يوما، فنشرةُ الأخبار الرسمية كانت دوما وافية، ولا تستدعيني لتقصِّي الحقائق، فقد افترضتُ الصدقَ فيها، ولم تجرؤ أصابعي مرَّة على تحريك مؤشِّر المذياع موجة واحدة إلى الأمام، لاعتقادي الراسخ أنَّ الحقيقة لا تكونُ إلا بصوت المذيع المتجهِّم الذي يظنُّ، كلَّ الظنِّ، أنَّ ابتسامته تنتقص من هيبة "الصالح العام"!

موظفا كتوماً كنتُ، بحواس مُعطَّلة، فيُمكنُ أنْ تمُرَّ من تحت يدي الأوراقُ التي تدرُّ حليبا وعسلا على مسبَح مُعَقَّم، بما أنَّ نظري مُتغاضٍ، وسمعي انتقائي كمزاجيَّة آذان كبار السنِّ؛ المهم أنْ يسيلَ الراتبُ بتؤدة كمياه البلدية، إلى البنك، نهاية الشهر، بكامل ضآلته من دون خصومات "إساءة استخدام المال العام"!

تكفيني فقط "جمعية" مع عدد غير محدود من أصدقاء الدخل المحدود، لشراء بدلة صينية سوداء، تعيدُ تجميلَ قيافتي لما أحضرُ بصفتي الوظيفية المتدنية مؤتمرا لمكافحة الفقر.. أسمعُ كلاما جميلا بلغات متعدِّدة، أعتقدُ أنَّني مقبلٌ، مع المقبلين، على رفاهية معقولة..، وأنتظرُ كثيرا حتى تخسر "البدلة" لونَها الداكنَ، بعدما أرتديها في كلِّ الأعياد ومناسبات الزواج الدائمة، وبيوت العزاء الطارئة، فلا تعودُ تصلحُ لمهابة مؤتمر لإعلان نبأ وفاة الطبقة الوسطى!

كان لي صوتٌ يُسمعُ في الانتخابات أدلي به بمنتهى الحريَّة، وأخرجُ مرتاحَ الضمير من قاعة الاقتراع، ولا ألتفتُ ورائي للتحقق من المجرى الذي مضى فيه صوتي، فله وظائف أخرى، إذ أستجيبُ لعمل إضافي يوم الجمعة يُمْليهِ عليَّ مسؤولي المباشر: أنْ أمشي وسط شارع مقتضب مع جموع، ونهتفُ بموسيقى مكسورة: "النِّظامْ حِلوْ بَس نِفْهَمُهْ"!

هكذا مرَّ نصفُ عمري متأهِّبا، اعتقدتُ أنني على وشك الحياة، فتطلبَ ذلك مني أنْ أكونَ بكامل لياقتي الصحيَّة، فلا أشعل "سيجارة"، أو أشرب ماءً لاذعا. أجريتُ فحوصات طبية دورية، كانت كلها تشهدُ لي بسيرة طبية ناصعة، وفي كلِّ مرَّة كنتُ أخرجُ أزاولُ المعتاد: أراقبُ ظلالَ الحائط، أهزُّ رأسي موافقا على ما يردُ في نشرة الأخبار الرسمية، أحتقنُ بالحماس فأشتاقُ لوظيفتي الثانوية كـ"هتِّيف"!

كان ليَ الحقُّ أنْ أتعبَ؛ فحتى الطبيعةُ تضجرُ من طبيعتها. وأنا مللتُ من "عقلي الراجح" الذي لم يقدني للحظة جنون واحدة، ومن لياقتي الصحيَّة التي لم تضمَن لي الصمود حتى أبلغ طابور الخبز، ومن دمي النقيِّ الذي لم يصعد مرَّة إلى وجهي!

لم أكن أعرفُ أنَّ حبَّة "هلوسة" تكفي لأنْ أثورَ على السكون وكل ما هو قائم بحكم "النظام العام"، لم أصدِّق نصيحة "العقيد" الخرِفْ؛ فحبَّةٌ واحدة كفيلة بأنْ يهرولَ نبض القلب ويشتاقُ للحياة.. ها أنا أدخلها "بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة"!

اضافة اعلان

"أهلوسُ" ليس أكثر، ولما أخرجُ أجدُ الناس كلها؛ أعرفُ أنَّ الموت معهم رحمة، والحياةُ كذلك، فأواصلُ المشيَ، أصعدُ فوقَ الحائط وأصرخُ مُرحِّبا بالشمس، أصيرُ خبرا عاجلا بمنتهى الدقة على "الإذاعة الأجنبية"، وكان صوتي حادا كالرصاص؛ فـ"الحياة حلوة" لو قرَّرنا أنْ نعيشَها!

[email protected]